أدب الحوار وأخلاق النقد

سعورس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أدب الحوار وأخلاق النقد, اليوم السبت 29 مارس 2025 10:45 مساءً

أدب الحوار وأخلاق النقد

نشر بوساطة مشاري النعيم في الرياض يوم 29 - 03 - 2025

2125212
ليس مطلوباً أن ينتهي الحوار بانتصار أحد على آخر. حتى في المناظرات السياسية والعلمية، غالباً لا ينتهي التقييم بانتصار طرف على حساب الآخر وغالباً ما يكون التقييم للحجج ولمهارات المناظر التي قدّمها وأوصلها للجمهور. في الجدل الفكري ليس المطلوب هو "الانتصار" بل الإقناع..
اتصل بي أحد الزملاء الذين لهم باع طويل في العمارة بشقيها المهني والفكري يسألني عن مسألة تتعلق بالهوية العمرانية دارت بينه وبين بعض الزملاء في إحدى مجموعات التواصل، وكان ممتعضاً من تعليقات البعض، قلت له في الفترة الأخيرة لم أعد أجادل الآخرين ولم يعد لدي رغبة في إقناعهم بشيء، صرت أقول ما عندي فإذا لقي ما قلت هوى لدى البعض فبها ونعمت وإلّا فلا ضير في عدم قناعته بما أقول. ذكرت له أن مهمة الناقد ليس في إجبار الناس أن يؤمنوا برأيه بل مهمته تحليل وتوضيح الظواهر وتفكيك القضايا وفهم مسبباتها، أما الإلحاح في إقناع الناس بصواب تحليله ومنطقية رأيه فهذه «مهارة» أخرى ليس بالضرورة أن يملكها كل النقاد. ختمت حديثي معه أن العيد مقبل ويجب أن يتسع صدرك لما يقوله الناس ولمواقفهم من آرائك، لكنني أعلم أنه رجل عنيد ولا يستسلم بسهولة وعنده طاقة كبيرة، رغم تقدمه في العمر، كي يستمر في إقناع الطرف الآخر بوجهة نظره. لكن هل هذه السمات من صفات الناقد، أقصد الإلحاح في الجدل، أم يجب أن تكون الصفة الغالبة هي: الوضوح في الطرح والاعتدال في الحوار؟
سؤال الزميل دفعني إلى طرح سؤال هو: هل هناك مبادئ مؤسسة للجدل والحوار في القرآن الكريم يمكن أن أقول عنها إنها قواعد يمكن للناقد أن يتبناها كمنهج في الحياة. من خلال البحث وجدت ثلاثة مبادئ أساسية في الحوار والجدل المعرفي ورأيت أنها يمكن أن تؤسس منهجاً «أخلاقياً» للجدل الفكري، أولها قول الله تعالى: «وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ» (النحل:125). هذا المبدأ يمكن أن يشكل قاعدة مهمة للتعامل مع الآخر، فليس مطلوباً أن ينتهي الحوار بانتصار أحد على آخر. حتى في المناظرات السياسية والعلمية، غالباً لا ينتهي التقييم بانتصار طرف على حساب الآخر وغالباً ما يكون التقييم للحجج ولمهارات المناظر التي قدّمها وأوصلها للجمهور. في الجدل الفكري ليس المطلوب هو «الانتصار» بل الإقناع، شخصياً لي تجارب كثيرة في محاورة الآخرين، وفي السابق خسرت كثيراً من الناس لأني كنت أبحث عن «الانتصار» وليس الإقناع فكانت آرائي حادة وصارمة تستهجن الطرف الآخر وتقلل من شأنه، وهذا ليس من أدب الحوار في شيء. لكن مع الوقت تكشفت حقيقة أساسية وهي قول الله تعالى «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (يوسف:103)، وهي حقيقة واضحة فسواء كنت تبحث عن الانتصار أثناء الحوار أو الاقناع والوضوح، فالمبدأ هو أن لكل رأيه الخاص وليس بالضرورة أن يكونوا مؤمنين بما تقول، وهذا هو المبدأ الثاني، ففي الجدل، يجب أن تقدم الحجج والبراهين، لكن في الوقت نفسه يجب أن يكون السقف هو: وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
كما ذكرت، الزميل العزيز صعب المراس ولا يتنازل عن رأيه، بغض النظر عن صحته وعمقه، والمطلوب هو أن يؤمن الناس بما يقول، ربما كونه مارس التدريس الجامعي لفترة طويلة تشبع بفكرة أن الجميع يجب أن يستمعوا له ويؤمّنوا على ما يقول. وهذه ظاهرة ليست منتشرة في أروقة الجامعات فقط بل هي ظاهرة «وعظية»، فالوعاظ لا ينتظرون اقتناع من يستمع إليهم، فهذا أمر مفروغ منه. وجدت في القرآن خطاباً موجهاً للرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ» (يونس:99)، ما أبلغ هذا المبدأ وما أعدله، فلكل منا قراره، ولكل منا رأيه وقناعاته. ما تعلمته من كوني أستاذاً في الجامعة لفترة امتدت أكثر من 35 عاماً أن المطلوب من طلابي أن يكون لهم رأيهم المستقل لا أن يؤمّنوا على ما أقول، لا أكذبكم القول إنني وصلت لهذه القناعة قبل عقدين من الزمن لكنها أصبحت مبدأ راسخاً في السنوات الأخيرة، يمكن أن أقول إن مبدأ عدم إكراه الآخر على قبول ما تقول وفتح المجال له لتحدي قناعاتك وآرائك يشكل منعطفاً معرفياً وتعليمياً أساسياً لا أعتقد أنه أصبح جزءاً من ثقافة الجامعة السعودية حتى اليوم.
الزميلة الدكتورة سُرى فوزي خفاجي، وهي عراقية تعيش في دولة الامارات، أضافت مبدأين آخرين ترى أنهما يكملان المبادئ الثلاثة الأساسية، وجميعها تشكل منهجاً أخلاقياً متكاملاً لأدب الحوار، لأن لكل صنعة منهجها الأخلاقي ومبادئها التي يجب أن ينتهجها الممارسون لها، وسوف أعتبر هذين المبدأين اللذين طرحتهما الزميلة يتممان قواعد الحوار، فالجدل يتطلب المعرفة والعمق والتكافؤ حتى يكون هناك «حراك جدلي» فيه تحدٍ يولّد المعرفة لا أن يكون حواراً مع عديمي الثقافة وأنصاف العارفين. يقول الله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» (الأعراف: 199)، ويمكن أن نقول إن هذا المبدأ يحدد متى يجب أن يتوقف الحوار، فالانسحاب أحياناً شجاعة، قد تشعر الطرف الآخر بالانتصار، لكنها شجاعة كبيرة من المُنسحب الذي تنطبق عليه صفات الحلم، فليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عن الغضب وهذا ما يحدد المبدأ الخامس، في قول الله تعالى: «وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا» (الفرقان: 63)، فمن العبث أن تتحاور مع الجاهل ففيه ضياع للوقت ولهيبة العلم والمعرفة.
ربما تضع هذه المبادئ الخمسة قاعدة أخلاقية للنقد والجدل الفكري كمنهج معرفي وأسلوب حياة، فعندما يؤمن الناقد والمفكرّ أن مهمته ليست إجبار الناس على الإيمان بما يقول بل هي في قدرته ومهارته أن يكون واضحاً بالقدر الكافي الذي يجعل ما يقوله يصل للناس يصبح للجدل معنى. لا أعتقد أنني استطعت أن أقنع الزميل أن يتوقف عن الحد الذي وصل له الحوار مع زملائه في مجموعة التواصل، فبعض الناس ممن يعتقد أنه يعلم أكثر من الآخرين يرى أن مهمته نقل الناس من الظلمات إلى النور وينسى أو يتناسى قول الله تعالى «وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا « (الإسراء: 85).

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.




إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق