على مدى عقود، ظل الأمريكيون يتلقون رسالة مفادها أن الواردات منخفضة السعر تعد نعمة خالصة، فشراء السلع المنتجة في الخارج بتكلفة أقل، يسمح للأمريكيين بزيادة قدرتهم الشرائية ورفع مستويات معيشتهم.
لكن هذه الرواية تخلط بين السبب والنتيجة، فالفائدة الحقيقية من التجارة الدولية تكمن في مساعدتها الدول على تعظيم رفاهها المحلي من خلال تعظيم قيمة إنتاجها المحلي.
فعلى مستوى الاقتصاد العالمي، وكذلك على مستوى كل دولة على حدة، لا يمكننا زيادة الاستهلاك إلا من خلال زيادة الإنتاج.
يمكن أن تكون للواردات الرخيصة نتيجة عكسية إذا شجعت على خفض الإنتاج المحلي.
فعندما تسجل الولايات المتحدة عجزاً في الميزان التجاري، فهذا يعني أنها تشتري من العالم أكثر مما تبيع.
والنتيجة أن الأمريكيين لا يدفعون ثمن الواردات بسلع وخدمات منتجة محلياً، بل عن طريق نقل ملكية الأسهم والسندات والمصانع والعقارات وأصول أمريكية أخرى.
إضافة إلى ذلك، فإن الاقتصاد الأمريكي، بانفتاحه الكبير على التجارة وحسابات رأس المال، يتكيف تلقائياً مع ضعف الطلب في الدول التي تعتمد سياسات صناعية لزيادة حصتها من التصنيع العالمي على حساب الطلب المحلي.
ويتم ذلك عبر تحويل الإنتاج الأمريكي من التصنيع إلى الخدمات، بغض النظر عن تفضيلات الأمريكيين الفعلية، بحسب ما ذكرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
لهذا، فإن الادعاء البسيط بأن الأمريكيين “يربحون” من الحصول على قمصان رخيصة من بنجلاديش أو سيارات منخفضة السعر من الصين يغفل جوهر المسألة، فالفائدة الحقيقية تتحقق عندما تؤدي الواردات إلى تحول في الإنتاج الأمريكي يرفع من وتيرة نمو الإنتاجية.
الهدف لا ينبغي أن يكون تعظيم الواردات الرخيصة بل تعظيم الإنتاج المحلي ونمو الإنتاجية
وبعبارة أخرى، إذا أدت التجارة إلى توسع أسرع في الإنتاج المحلي، فسوف يتحسن رفاه العمال ويزداد استهلاكهم سواء كانت الواردات أرخص أم لا.
أما إذا لم تؤدي التجارة إلى توسع أسرع في الإنتاج المحلي، فلن يتحسن مستوى الرفاه حتى مع انخفاض أسعار الواردات.
العجز التجاري لا يكون ضاراً بالضرورة، فقد تستورد اقتصاديات نامية تنمو بسرعة، وتتمتع بفرص استثمارية قوية، رأسمالاً أكثر مما تصدره أثناء بناء البنية التحتية أو توسيع الإنتاج، وفي هذه الحالة قد يعكس العجز قوة الاقتصاد.
هذا ما كان عليه الحال في الولايات المتحدة خلال معظم القرن التاسع عشر.
لكن الوضع الحالي مختلف، فالتدفقات الرأسمالية الأجنبية، من خلال رفع قيمة الدولار وجعل الصناعات الأمريكية أقل قدرة على المنافسة عالمياً، قد تضع في الواقع ضغوطاً هبوطية على الاستثمار المحلي.
وهذا يظهر في ميل الشركات الأمريكية للاحتفاظ بمبالغ قياسية من السيولة، رغم إنفاقها تريليونات الدولارات على إعادة شراء الأسهم، وتوزيعات الأرباح، وعمليات الاستحواذ، ونقل مرافق الإنتاج إلى الخارج.
من الواضح أن الاستثمار المحلي المطلوب لا تعوقه ندرة المدخرات، وبالتالي فإن التدفقات الأجنبية لن تزيد من الاستثمار المحلي.
مع ذلك، فإن زيادة الواردات تعني أن جزءاً من الطلب الأمريكي يتحول من السلع المنتجة محلياً إلى تلك المنتجة في الخارج.
وإذا لم يقابل ذلك زيادة موازية في الطلب الأجنبي على السلع الأمريكية، بسبب ضعف هيكلي في الطلب الخارجي يمنع ارتفاع الواردات من مواكبة ارتفاع الصادرات، فلن يستجيب الاقتصاد الأمريكي بزيادة الإنتاج المحلي لتلبية الصادرات المرتفعة.
في هذه الحالة، أمام الاقتصاد خياران، إما أن تقلص الشركات الأمريكية الإنتاج وتسرح العمال، مما يرفع البطالة، أو أن يتم تحفيز الطلب المحلي عبر زيادة ديون الأسر أو الدين العام.
ولأن السلطات الأمريكية ترغب في تجنب الخيار الأول، فإنها تميل غالباً إلى الخيار الثاني.
والنتيجة أن البطالة لا ترتفع، لكن الدين الأمريكي يرتفع، ويضطر العمال الأمريكيون تلقائياً للانتقال من إنتاج السلع القابلة للتجارة إلى إنتاج الخدمات غير القابلة للتجارة، مرة أخرى بغض النظر عن تفضيلاتهم الفعلية.
عجوزات القرن 21 ترفع الدين وتقلص التصنيع وتزيد عدم المساواة وتعتمد النمو على فقاعات الأصول
وعليه، ففي حين سمحت العجوزات التجارية المستمرة في القرن التاسع عشر بزيادة الاستثمار ونمو التصنيع الأمريكي، فإن العجوزات المستمرة في القرن الحادي والعشرين تؤدي إلى ارتفاع الدين، وتراجع القطاعات الإنتاجية مثل التصنيع كنسبة من الاقتصاد الأمريكي، وزيادة عدم المساواة في الدخل، واعتماد النمو الاقتصادي بشكل أكبر على فقاعات الأصول.
ولا تصب أي من هذه النتائج في مصلحة المستهلك الأمريكي.
إذا أردنا حقاً تعظيم رفاه المستهلك الأمريكي، يجب أن نعكس الرواية السائدة.
فالهدف لا ينبغي أن يكون تعظيم الواردات الرخيصة، كما يعتقد معظم الاقتصاديين خطأً، بل تعظيم الإنتاج المحلي ونمو الإنتاجية، وضمان توزيع ثمار هذا النمو على نطاق واسع.
فهذه هي الطريقة الوحيدة المستدامة لتعظيم نمو الرفاه.
هذا لا يعني إغلاق الحدود أمام التجارة، إذ يمكن أن تكون التجارة مفيدة للغاية إذا صُممت لدعم الإنتاج.
لكن عندما تؤدي التجارة إلى إعطاء الأولوية للواردات الاستهلاكية الرخيصة على حساب الإنتاج والاستثمار، أو عندما يكون هدف السياسة التجارية هو التكيف مع الاختلالات العالمية في التجارة والمدخرات، فإن الفائدة الأكبر تذهب إلى وول ستريت، على حساب العمال والمزارعين والشركات الأمريكية، وبالطبع المستهلكين الأمريكيين.
ومن هنا، من الضروري إعادة التفكير في الحكمة التقليدية التي ترى أن الغاية الأساسية من التجارة في الولايات المتحدة هي خفض أسعار الواردات، فارتفاع الاستهلاك لا يمكن أن يستمر إلا من خلال ارتفاع الإنتاج.
ولهذا، إذا أرادت الولايات المتحدة تحسين ازدهارها على المدى الطويل، فعليها أن تدرك أن الطريقة الوحيدة التي تعزز بها التجارة رفاهها المحلي واستهلاكها هي عبر تعزيز الإنتاج المحلي.
وفي النهاية، فإن النمو المستدام في الاستهلاك لا يقوده إلا نمو الإنتاجية.
0 تعليق