لا غالب ولا مغلوب

أخبارنا 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

ليس لأي كان أن يجمع بين الحكمة والتواضع، وليس لأي كان أن يتحلى بالعفو بعد المقدرة. إنها خصال ملك، فبقذر ما له من قوة بقدر ما يزداد إيمانه رسوخا بأن تلك القوة لا ولن تصنع السلام الدائم ما لم يتأتى ذلك بقوة التواصل ودعامة الحوار من منطلق ليس فيه هناك غالب ولا مغلوب، بمعنى أن جلالة الملك حرص على أن يراعي في المقابل وضعية الطرف الآخر بصون كرامته وحفظ ماء وجهه، لا بلي ذراعه أو الإتيان به على أربعة. ولو صح لهم ما صح للمغرب لكانوا من أشد المتغطرسين

جلالة الملك وفي خطاب رسمي، واي خطاب هو، كانت رسالته إلى حكام الجزائر بمثابة طوق للنجاة تعمد أن يرميه إليهم للتسهيل عملية إخراجهم من الوحل الذي أثقل سيقانهم على مدى نصف قرن من الزمن. فما آل إليه الصراع المفتعل من مكاسب وانتصارات لم تؤثر في المغرب ولم تخلق لديه عقدة المنتصر حتى يستأسد في مواجهة الخصم ولم يلتفت جلالة الملك إلى التوازن المختل الذي كان يصب في صالح المغرب، بل حكمته دفعته إلى أن يترفع عن كل ذلك وأن يبني سلاما مع جار لا يمكن استبداله بحكم الجوار الجغرافي . ولذلك ما أراد أن يقوله جلالة الملك في خطاب العرش أن الجغرافيا إذا كانت عصية على تغيير ما ابتلي به المغرب في شرقه فيمكن الاستعاضة عن كل ذلك بسياسات من قبيل اليد الممدودة ومن قبيل لا غالب ولا مغلوب.

جلالة الملك قام بما يلزم من أجل بناء الثقة إيمانا منه أن مبدأ حسن الجوار مبدأ لا محيد عنه. وإذ الإرادة واضحة لا لبس فيها، فعلى الإخوة في الجزائر أن يلتقطوا الرسالة الصادقة التي لا يعتريها الباطل. وبعيدا عن منطق التهديد ليس من المناسب أن نقول بأن هده المبادرة الملكية تعد بمثابة الفرصة الأخيرة، لكن نكتفي بالقول بأنها لحظة تاريخية ومن باب التعقل يجب استغلالها من طرف حكام الجزائر فهي مناسبة مواتية لهم لو انتبهوا إلى التطورات المنتظرة خلال الأسابيع أو الأشهر القليلة المقبلة التي توحي بنهاية هذا الصراع. ولذلك، قد آن الأوان للتخلي عن حسابات الماضي حتى لا يقع للجزائر ما وقع للصياد حينما خاطبته القبرة قائلة له لا تأسفن على ما فاتك.

الأشقاء في الجزائر يعلمون علم اليقين أن هذا الصراع المفتعل الذي فاق التوقعات بسبب استدامته قرابة خمسين عاما أخذ اليوم مجراه الأخير في العد العكسي ولم يبق من عمره سوى لحظات من تواجده في غرفة الإنعاش. الملف أمام الأمم المتحدة استوفى كل الشروط اللازمة للتسوية التي اعتمدها المنتظم الدولي على مدى عشرين حولا أي منذ اعتماد مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب عام 2007. وقد بقيت هذه المبادرة هي الأساس في كل قرارات مجلس الأمن وبموجبها انتهى منذ زمان الحديث عن خرافة الاستفتاء وتقرير المصير.

 وحينما تناسلت الاعترافات بمغربية الصحراء وافتتحت العديد من الدول قنصليات لها في الأقاليم الصجراوية بما فيها دول إفريقية وازنة، ناهيك عن بعض الإيحاءات الواعدة من جنوب إفريقيا، بدأ الملف يأخذ منحى جديدا في اتجاه الحسم النهائي بعد عودة دونالد ترامب على رأس الإدارة الأمريكية الذي جاء لينهي بؤر التوتر في العالم. لقد وعد الرجل في حملته الانتخابية بذلك وها هو اليوم يقود ما وعد به لبناء عالم بدون حروب. وعد وكذلك يفعل.

ما نعاينه حاليا أن الرئيس الأمريكي يريد من الولايات المتحدة التي هي صاحبة القلم في مجلس الأمن أن تنتقل إلى مرحلة جديدة ومؤثرة تكون فيها اليوم واشنطن هي الراعي المباشر للخروج من حالة الانسداد في كواليس الأمم المتحدة رغم موقف المنتظم الدولي الواضح والصريح حيال هذا الصراع، وذلك بالعمل على الانتقال إلى دائرة ترجمة تلك الشرعية الدولية على أرض الواقع عبر الحوار المباشر بين طرفي هذا الصراع وهما المغرب والجزائر والجمع بينهما على طاولة واحدة بتنسيق أمريكي على قاعدة مبادرة الحكم الذاتي.

المغرب، في شخص جلالة الملك، سارع بالفعل إلى التجاوب مع ما تخطط له الولايات المتحدة الأمريكية معربا عن استعداده، كما فعل من قبل، للجلوس على طاولة الحوار مع الأشقاء الجزائريين بأجندة مفتوحة بعيدا عن العراقيل وعن الشروط المسبقة. وأن المغرب على أتم الاستعداد لتعاون ثنائي مفتوح يشمل كل المجالات التي قد تعود بالنفع على الشعبين الشقيقين المغربي والجزائري اللذين تربطهما، كما قال جلالة الملك، قواسم مشتركة في اللغة والدين والقرابة والعادات والتقاليد والمصير المشترك.

والأهم من كل ذلك، أن سياسة اليد الممدودة ومبدأ لا غالب ولا مغلوب لم تكن وليدة الصدفة ولا من باب المحاباة أو الالتفاف على الأشياء، بل كثيرة هي المبادئ التي أفرزتها مدرسة الحسن الثاني القائمة على التسامح ونكران الذات.وقد سئل المرحوم ذات يوم كيف ستواجه خصومك إذا قابلوك بالشر قال سأواجههم بالخير وسأستمر في مقارعتهم بالخير إلى أن يغلب خيري شرهم.

الآن يبذو أن هناك مؤشرات على قلتها وشحها تفيد بأن تلك المياه الراكدة ليست كما كانت عليه من قبل، بل بدأ النظام الجزائري في تحريكها وإن ثبتت تلك المؤشرات فإنها ستكون بشرى على شعوب المنطقة. وخير ما قد يفعله النظام الجزائري له ولغيره أن يكون موقفه في مستوى الحدث وفي مستوى التطلعات لإعادة الحياة إلى الحلم المغاربي الذي تحن له شعوب المنطقة.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق