البوسنة والهرسك وميانمار وصربيا دفعت ثمن الاعتماد على الاستثمارات الصينية والغاز الروسي
في صيف العام الحالي، وجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ضربة جمركية طالت ما يقارب 100 دولة، مما أحدث هزة في الأسواق، وتصاعدت الاحتجاجات في عواصم الحلفاء، بينما انشغل المحامون التجاريون بتفسير التداعيات.
وبينما تقول الإدارة الأمريكية إن الهدف من الرسوم الجمركية هو معالجة عجز الميزان التجاري (إلى جانب مبررات أخرى)، إلا أن الأرقام تكشف رواية مختلفة.
لو كانت الرسوم الجمركية تستهدف حقاً تقليص العجز التجاري، لكان المنطق واضحاً، إذ تُفرض أعلى المعدلات على الدول التي تتجاوز فيها قيمة الواردات الأمريكية قيمة الصادرات إلى حد كبير، مقارنةً بحجم الاقتصاد الأمريكي.
ووفق هذا المقياس، فإن أكبر الفجوات التجارية الثنائية، باستثناء الصين، هي مع الاتحاد الأوروبي (-0.85% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي)، والمكسيك (-0.62%)، وفيتنام (-0.45%)، واليابان (-0.25%).
بناءً على سياسة موجّهة بالعجز، كان من المفترض أن تتصدر هذه الاقتصادات القائمة.
لكن الواقع مختلف، فالاتحاد الأوروبي يواجه رسماً جمركياً بنسبة 15% فقط، والمكسيك بنسبة 25%، وفيتنام 20%، واليابان 15%.
في المقابل، الدول التي تتمتع الولايات المتحدة بفائض تجاري معها، أو تسجّل عجزاً طفيفاً، واجهت أعلى المعدلات، بحسب ما نقله موقع “بروجكت سنديكيت”.
فالواردات من البرازيل، التي لدى الولايات المتحدة معها فائض بسيط قدره +0.03%، تخضع لرسم 50%، وهو الأعلى بين جميع الدول.
أما لاوس، التي لا يتجاوز عجزها مع أمريكا -0.003% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، فتواجه رسماً قدره 40%.
لو كان الهدف استخدام الرسوم الجمركية كورقة ضغط، لكان المنطق مغايراً.
عندها لا يتعلق الأمر بمَن تدين له الولايات المتحدة أكثر، بل بمَن يعتمد بشكل أكبر على السوق الأمريكية، فالدولة التي تصدّر جزءاً كبيراً من ناتجها المحلي الإجمالي إلى الولايات المتحدة، وتستورد منها القليل نسبياً، تكون في موقع تفاوض ضعيف.
ووفق هذا المقياس، كان من المفترض أن تواجه فيتنام (32% من ناتجها المحلي من الصادرات إلى أمريكا)، وغيانا (31%)، وكمبوديا (30%)، والمكسيك (28%)، ونيكاراغوا (26%)، أعلى المعدلات.
لكن باستثناء المكسيك التي تواجه رسماً جمركياً بنسبة 25%، لم تتجاوز الرسوم على بقية هذه الدول 20%.
في المقابل، جاءت أعلى المعدلات على دول أقل اعتماداً على السوق الأمريكية مثل البرازيل (2% فقط من ناتجها من الصادرات لأمريكا) والهند (2.5%).
لا العجز التجاري ولا ورقة الضغط يفسران هذه الأرقام، بل يبدو المشهد أكثر وضوحاً حين يُقرأ من زاوية السياسة، إذ تستخدم إدارة ترامب الرسوم الجمركية لمكافأة المتوافقين ومعاقبة المستقلين واستهداف القطاعات المرتبطة بالمنافسين الاستراتيجيين.
فعلى سبيل المثال البوسنة والهرسك، التي تُعد شريكا بعجز طفيف واعتماد محدود على الولايات المتحدة، لكنها فتحت أبوابها للاستثمارات الصينية في البنية التحتية، بداية من مشاريع الطاقة الكهرومائية وصولاً إلى الطرق ضمن مبادرة الحزام والطريق، ما وضعها في خانة “غير المتوافقة سياسياً”.
الأمر نفسه مع ميانمار التي تواجه رسماً جمركياً بنسبة 40% رغم عجز متواضع واعتماد محدود على السوق الأمريكية، لكنها تعتمد بشدة على الدعم العسكري والاقتصادي الصيني، وعززت علاقاتها الدفاعية مع روسيا بعد انقلاب 2021.
وصربيا التي تخضع لرسم جمركي نسبته 35% لديها عجز صغير واعتماد ضعيف، لكنها تبرز بتوافقها الاستراتيجي مع روسيا في الطاقة والأمن، حيث تعتمد على الغاز الروسي، وحصلت مراراً على إعفاءات من العقوبات الأمريكية لشركتها النفطية المرتبطة بروسيا.
أما البرازيل، فهي من الدول القليلة التي تحقق الولايات المتحدة فائضاً معها، لكنها مورد رئيسي لخام الحديد وتتمتع بنفوذ متزايد في سلاسل التوريد العالمية، ورفضت الانصياع لمطالب ترامب السياسية.
في المقابل، كانت هناك أطراف أكثر مرونة، فالاتحاد الأوروبي تفادى رفعاً أكبر في الرسوم الجمركية بعد موافقته على التعاون في ضوابط التصدير وتبادل البيانات.
أستراليا حصلت على معدل أساسي عند 10% بعد تعزيز علاقاتها الدفاعية مع الولايات المتحدة
وبالنسبة لأستراليا، فقد حصلت على معدل أساسي عند 10% بعد تعزيز علاقاتها الدفاعية مع الولايات المتحدة.
واليابان، ورغم رفع الرسوم الجمركية عليها، إلا أنها تجنبت الحد الأقصى بعد توافقها مع واشنطن في سياسات أشباه الموصلات.
استخدام الرسوم الجمركية لمكافأة الامتثال للأهداف الأمريكية ومعاقبة الاستقلالية يُشكل خروجاً صارخاً عن النظام القائم على القواعد الذي أسست له اتفاقية “الجات” ومنظمة التجارة العالمية.
صحيح أن رؤساء أمريكيين سابقين مثل بيل كلينتون وجورج بوش وباراك أوباما، ربطوا التجارة أحياناً بالأمن، لكن ذلك تم عبر اتفاقيات رسمية وصفقات متعددة الأطراف حافظت على روح التوافق.
أما أسلوب “ترامب” فهو مباشر وسريع وعلني، بدءاً من إعلان “يوم التحرير” بفرض رسوم متبادلة في 2 أبريل باستخدام صلاحيات الطوارئ، إلى إعادة الصياغة في 31 يوليو، مروراً بزيادة الرسوم الجمركية على النحاس في أغسطس، وصولاً إلى إلغاء حد الإعفاء الجمركي البالغ 800 دولار.
لقد تحولت فرصة الوصول للسوق الأمريكية إلى امتياز سياسي مشروط وقابل للإلغاء، يُستخدم لفرض التوافق.
وقد تحقق هذه المقاربة مكاسب قصيرة المدى، لكنها تهدد في المقابل بإضعاف التحالفات والمؤسسات التي دعمت القوة الاقتصادية الأمريكية لعقود، فالجدول الجمركي هنا ليس خريطة اقتصادية، بل دفتر حسابات يترجم أولويات هذه الإدارة الاستراتيجية.
0 تعليق