في ذروة ازدهار الصين قبل عقد، كان مصنع الأحذية الذي يملكه تشو يوشينج في مقاطعة قوانغدونغ يوظف أكثر من 100 عامل.
في تلك الفترة، كانت الصين تتمتع بوفرة من الأيدي العاملة الرخيصة وسلاسل التوريد المركزية، مما جعلها قوة رائدة في قطاع التصنيع منخفض التكلفة.
على سبيل المثال، تجاوزت حصة الصين من صادرات الأحذية العالمية 70% قبل أكثر من عقد، وفقاً للأرقام الواردة في دليل صناعة الأحذية العالمية.
لكن على مدار العقد الماضي، بدأ تشو يلاحظ تراجع القدرة التنافسية لمصنعه نتيجة للمنافسة المتزايدة من الخارج، واندلاع حرب التجارة مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى ضعف الطلب المحلي.
وقد شهدت الأجور في مراكز التصنيع جنوب الصين، التي كانت تشكل العمود الفقري للنمو الاقتصادي السريع في البلاد، زيادة ملحوظة، بينما اشتد التنافس مع الدول المنافسة في جنوب شرق آسيا.
لاتزال الصين تهيمن على إنتاج الأحذية، إلا أن حصتها من صادرات العالم تراجعت بنحو 10 نقاط مئوية العقد الماضي، إذ انتقلت العديد من تلك الحصة إلى مراكز منافسة مثل فيتنام وإندونيسيا، وفقًا لدليل صناعة الأحذية.
وفي تقرير نشرته صحيفة “فاينانشيال تايمز”، تمت الإشارة إلى أن المصانع في أنحاء الصين، خصوصا في القطاع منخفض التكلفة، تواجه معضلة مشابهة، إذ يتعين عليها إما الاستثمار في الأتمتة التي تؤدي إلى تقليص عدد الوظائف، أو بدء التلاشي تدريجياً.
النتيجة، كما يراها الباحثون والاقتصاديون، هي تحول مؤلم بعيدًا عن الإنتاج منخفض التكلفة والعمالة المكثفة، مما قد يترك ملايين من العمال كبار السن وذوي المهارات المنخفضة في وضع صعب.
وأظهرت دراسة أكاديمية شملت 12 قطاعًا يعتمد على العمالة بين عامي 2011 و2019، أُجريت في جامعة تشانغتشو وجامعة يانتشينغ وجامعة خنان، أن متوسط العمالة انخفض بنحو 14%، أو ما يقرب من 4 ملايين وظيفة، خلال تلك الفترة، كما تراجعت الوظائف في صناعة النسيج بنسبة 40%.
وفي تحليل أجرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” حول القطاعات نفسها بين 2019 و2023، تم تسجيل انخفاض إضافي قدره 3.4 مليون وظيفة.
قال كبير الاقتصاديين الآسيويين في “إتش إس بي سي”، فريدريك نيومان : “استغلت الصين ميزة مقارنة على مدى العقود الماضية بفضل توفر قوة عاملة وفيرة.. وأصبحت القوة المهيمنة عالميًا في تصنيع السلع التي تعتمد على العمالة المكثفة، لكن هذه اللعبة قد انتهت الآن”.
من نواحٍ عديدة، تخاطر بكين بتجربة نفس “صدمة الصين” التي فرضتها على الدول المتقدمة في التصنيع بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في بداية العقد الأول من الألفية الجديدة، عندما انتقلت الطلبيات بكثافة من مراكز التصنيع الأكثر تكلفة إلى المصانع الرخيصة والفعالة في قوانغدونغ وغيرها من المقاطعات.
الآن، أصبحت المصانع الأرخص في دول مثل فيتنام وإندونيسيا، حيث شهدت الصادرات هناك زيادة ملحوظة.
تمكنت الدول الغربية من تجاوز “صدمة الصين” جزئيًا من خلال تطوير اقتصادات مدفوعة بالاستهلاك وصناعات خدمات حيوية.
ومع ذلك، أكد الزعيم الصيني شي جين بينج أن “القوى الإنتاجية الجديدة عالية الجودة”، أو التصنيع المتقدم، ستظل عنصرًا أساسيًا في نموذج النمو الصيني.
لكن المحللين يشيرون إلى أن الإنتاج في الصناعات عالية التقنية سيكون أقل اعتمادًا على العمالة، ولن يوفر فرصًا كافية لامتصاص فائض العمالة بمفرده.
ويشكك المحللون أيضاً في قدرة التصنيع وحده على تحقيق أهداف النمو في الصين، التي حددها القادة السياسيون عند “حوالي 5% من النمو” للسنة الثالثة على التوالي في 2025.
ويزداد خطر البطالة المحلية، مما قد يؤثر سلبًا على الآفاق الاقتصادية ويخلق توترات اجتماعية قد تكون صعبة على صُناع السياسات، الذين اعتادوا على عقود من النمو السريع.
العمال المهاجرون ذوى المهارات المنخفضة في الصين هم الأكثر عرضة للخطر، كما يقول جوردون هانسون، أستاذ في مدرسة كينيدي بجامعة هارفارد والمتخصص في دراسة آثار تراجع التصنيع على سوق العمل.
ويستشهد هانسون بمثال مارتينسفيل في ولاية فيرجينيا الأمريكية، التي كانت تُعرف سابقًا بعاصمة صناعة السترات في العالم، إذ كان حوالي 45% من البالغين في سن العمل يعملون في التصنيع عام 1990.
ومع ذلك، اختفت معظم هذه الوظائف بعد أن فشلت المدينة في إعادة توجيه اقتصادها، ويبلغ اليوم معدل الفقر في المدينة ضعف المعدل الوطني.
ويضيف هانسون: “أتوقع أن الفرق الرئيسي في الصين هو أنها ستشهد جهودًا حكومية منسقة أكثر للحد من هذا الاضطراب، لكن إذا كانت الصين تعتقد أنها يمكن أن تهيمن على التكنولوجيا الخضراء والذكاء الاصطناعي في نفس الوقت أثناء محاولتها مواجهة هذا الاضطراب، فقد تواجه نفس التحديات”.
تقوم الحكومة ببعض المحاولات لدعم الصناعات التقليدية، وهذا هو السبب في أن وانج، في الأربعينيات من عمره، وجد نفسه في فبراير على بُعد حوالي 2000 كم من منزله في منتزه صناعي شبه مكتمل في جنوب الصين.
كان في شمال قوانغدونغ بحثًا عن فرصة عمل في صناعة الملابس الشهيرة في المنطقة.
وكان وانج، واحدًا أحد العمال الذين وقعوا في هذا التحول الصعب، حيث كان يحاول العثور على وظيفة في مدينة تشونجدا للأزياء والتكنولوجيا، وهي مبادرة مشتركة بين المسئولين في تشينجيوان وقوانغتشو لإنشاء “قاعدة تصنيع ذكية” للأزياء السريعة.
يأمل المسئولون أن يسهم هذا المشروع في جذب الشركات الصغيرة من جميع أنحاء المقاطعة لإطلاق عمليات أكثر تطورًا من الناحية التكنولوجية، وبالتالي تعزيز القدرة التنافسية لصناعة الملابس الكبيرة في المنطقة.
تعد مشاريع من هذا النوع عبر الصين جزءًا من الحل الذي تقدمه الحكومة لتحسين الصناعات المتدهورة.
وقد وصلت حصة الصين من تصدير 10 منتجات كثيفة العمالة، مثل تجهيزات المنزل والأثاث والأمتعة والألعاب وغيرها، إلى ذروتها في عام 2013 بنسبة تقارب 40%، وفقًا للأرقام التي جمعها هانسون في مدرسة كينيدي بجامعة هارفارد.
وتظهر أرقام هانسون، أن حصة الصين من هذه المنتجات العشرة انخفضت لأقل من 32% بحلول عام 2018، وقد أسهمت الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة في تسريع هذه العملية.
حتى المنتجات التي تتطلب عمليات أكثر تقدمًا لم تسلم من التأثر، ففي ظل التوترات مع الولايات المتحدة، تسارعت جهود الشركات العالمية والمحلية “لإزالة المخاطر” من سلاسل الإمداد وتقليص الإنتاج الصيني لجميع المنتجات، من “أيفون” إلى أجزاء السيارات في السنوات الأخيرة.
وكان الربح الأكبر من نصيب دول جنوب شرق آسيا، حيث سارعت الشركات الصينية وعملاؤها العالميون للبحث عن مصادر بديلة للبضائع من مراكز منافسة هناك.
وقد شهدت صادرات فيتنام وإندونيسيا معدلات نمو سنوية مركبة بنسبة 8.2% و12.3% على التوالي بين عامي 2019 و2023، وفقًا لشركة “ماكينزي”، كما أضافت الدولتان معًا 10 ملايين وظيفة صناعية منذ عام 2011، وفقًا للأرقام الرسمية.
يقول كبير الاقتصاديين ألبرت بارك، في البنك الآسيوي للتنمية إنه “من الطبيعي لدولة مثل الصين، التي تزداد ثراءً وترتفع أجورها، أن تسمح بانتقال بعض الأنشطة ذات الكثافة العمالية والموجهة للتصدير إلى دول أخرى. التغيير الهيكلي دائمًا ما يكون صعبًا على بعض العمال، وبالتالي فهو خيار يتعين أن يتخذ على مستوى الحكومة والمجتمع بشأن كيفية حماية هؤلاء العمال”.
ومع ذلك، لايزال التصنيع بعيدًا عن الزوال في الصين، ففي مصنع في بانيُو على أطراف قوانغتشو، يعمل البشر جنبًا إلى جنب مع الآلات لإنتاج سيارة كهربائية جديدة كل 53 ثانية.
يعمل نحو 1400 شخص في هذا القسم من المصنع، الذي يختص بالتجميع النهائي للسيارات تحت العلامة التجارية “أيون” التابعة لشركة تصنيع السيارات المملوكة للدولة “جاك”.
المواقع المتقدمة مثل هذه تمثل تجسيدًا لرؤية بكين لـ”القوى الإنتاجية الجديدة”، حيث تعمل الآلات عالية التقنية المدارة بأنظمة ذكية على إنتاج منتجات متطورة.
يعتقد صُناع السياسات أن الأتمتة والروبوتات أصبحت ضرورة حتمية إذا كانت الصين ترغب في الحفاظ على قدرتها الإنتاجية على المدى الطويل.
وحال تأخرت الصين في تطبيق الأتمتة، كما يعتقد الكثيرون، فإن حتى إنتاجها المتقدم قد يواجه تهديدًا من دول منافسة قد تتفوق عليها، كما أن النمو الناتج عن الوظائف عالية التقنية سيؤدي إلى خلق فرص عمل جديدة ومستهلكين جدد، مما سيسهم في تعزيز التوظيف بشكل عام.
لكن هناك اعتراف بأن الابتكارات مثل الأتمتة ستساعد في حل مشكلة نقص العمالة في بعض الصناعات، لكنها قد تؤدي إلى استبعاد العمال الذين يواجهون صعوبة في التكيف مع الأساليب الإنتاجية الحديثة.
وبالنسبة لأولئك العاملين في الصناعات المتقدمة، سيعمل توسع الأتمتة والروبوتات على مواجهة التحديات الناجمة عن شيخوخة وانكماش القوى العاملة في الصين، كما سيسهم في تخليص العمال المستقبليين من الأعمال غير المرغوب فيها.
بينما يمكن للأتمتة أن تسهم في تخفيف ضغوط سوق العمل في بعض الصناعات، فإنها في الوقت ذاته تُعرض الوظائف التي تتطلب مهارات أقل للزيادة في فائضها.
0 تعليق