مساهمة فكرية مهمة لفهم السياسة الهندية في أكبر ديمقراطية برلمانية
في كتابه الجديد هذا «الدستور الهندي: حوار مع السلطة»، يفتح غوتام بهاتيا نقاشاً عميقاً حول مسار التجربة الدستورية في الهند منذ الاستقلال وحتى اليوم. يتناول تاريخ تشكّل السلطة في الهند، وكيف أثّرت الصراعات السياسية وتفسيرات المحاكم والممارسات التنفيذية في تعزيز النزعة المركزية على حساب التوازن الفيدرالي والتعددية التي أرادها المؤسسون الأوائل.
يُعد هذا الكتاب الصادر عن دار هاربر كولينز - الهند في فبراير 2025، باللغة الإنجليزية، في نسخة ورقية من 300 صفحة، مساهمة فكرية مهمة لفهم السياسة الهندية والديمقراطية في أكبر ديمقراطية برلمانية في العالم من خلال منظور نقدي جديد يربط بين النصوص الدستورية والتطبيق العملي لها. يحلل باتيا الدستور من خلال ستة محاور أساسية، هي: الفيدرالية، النظام البرلماني، التعددية، المؤسسات، الحقوق، الشعب. وعلى الرغم من أن تصميم الدستور يبدو متوازناً من حيث المبدأ، فإن الكتاب يكشف كيف أدت ممارسات السلطة التنفيذية والتفسيرات القضائية المتتالية إلى تعزيز مركزية السلطة لدى الحكومة الاتحادية، ما قلّص من التوازن الذي كان يسعى إليه المؤسسون الأوائل للهند المستقلة. ويتوقف الكتاب عند مرحلة تاريخية مهمة، حيث يناقش مسارات دستورية بديلة لم تتحقق، مثل دستور عام 1920، ومحاولات الإصلاح الدستوري التي ظهرت بعد فترة الطوارئ في أواخر السبعينات من القرن العشرين. هذه القراءات التاريخية تعكس كيف كان من الممكن للهند أن تتخذ طرقاً مختلفة في بناء مؤسساتها السياسية لو تم تبني هذه التوجهات الإصلاحية.
تحولات سياسية غير مسبوقة
يقول المؤلف: «أي متابع للشأن الدستوري في الهند، سيدرك أن الفترة من 2019–2024 كانت زمناً استثنائياً مملوءاً بالتحولات السياسية. في أغسطس 2019، وبعد فوز حزب بهاراتيا جاناتا بولاية ثانية، أصدرت الحكومة أمرين رئاسيين ألغيا الوضع الخاص لجامو وكشمير وحولاهما إلى إقليم اتحادي يخضع لسيطرة الحكومة المركزية، ما أثار جدلاً واسعاً وطعوناً أمام المحكمة العليا». ويضيف: «أشعلت هذه الخطوات معركة قانونية طويلة حول طبيعة الفيدرالية وأهداف الحكم الذاتي وحدود سلطات الطوارئ، رافقها إغلاق طويل للإنترنت واعتقالات لأعضاء من المعارضة. كما شهدت الفترة نفسها نزاعات أخرى بين المركز والأقاليم، منها قضية دلهي عام 2023 التي حكمت فيها المحكمة لصالح حكومة الإقليم قبل أن يعيد البرلمان السلطة للمركز، لتبدأ جولة جديدة من النزاعات. وخلال خمس سنوات، أطيح بثلاث حكومات في ولايات معارضة عبر استقالات وانقسامات حزبية، ما سمح للحزب الحاكم بتشكيل حكومات جديدة، وأدى إلى صدامات قانونية وصلت إلى المحكمة العليا، وطالت حكام الولايات ورؤساء المجالس التشريعية واللجنة الانتخابية».
نزاعات وصدامات مع القضاء
ويوضح المؤلف أنه لم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي وجدت فيها اللجنة الانتخابية نفسها في قلب العاصفة. ففي أوائل عام 2023، أي قبل أكثر من عام بقليل من الانتخابات العامة لعام 2024، أصدرت المحكمة العليا حكماً يحرم السلطة التنفيذية من صلاحية تعيين مفوضي الانتخابات، مؤقتاً، مانحة هذه الصلاحية إلى لجنة مكونة من رئيس الوزراء، وزعيم المعارضة، ورئيس المحكمة العليا في الهند. وبحلول نهاية العام نفسه، أقر البرلمان قانوناً استبدل رئيس المحكمة العليا بعضو من مجلس وزراء الاتحاد، ما أعاد للسلطة التنفيذية حقها في اختيار أعضاء اللجنة الانتخابية. وقد جُمّدت الطعون القانونية ضد هذا القانون بقرار من المحكمة العليا، وبالتالي أجريت انتخابات 2024 تحت إشراف لجنة انتخابية اختير اثنان من أعضائها الثلاثة فعلياً بواسطة رئيس الوزراء ووزير اتحادي من اختياره.
لم تقتصر الصراعات الدستورية على الولايات والأحزاب السياسية والمؤسسات فحسب. ففي مطلع عام 2024، دخل اختصاران إلى الوعي الوطني بشكل قوي، وهما (ED) أي إدارة إنفاذ القانون، و(UAPA)، أي قانون منع الأنشطة غير المشروعة لعام 1967. الأول (ED) هو الجهة المسؤولة عن تنفيذ أحكام قانون مكافحة غسل الأموال في الهند لعام 2002. أما الثاني (UAPA) فهو التشريع الشامل لمكافحة الإرهاب في الهند. ما يجمع بين هذين القانونين هو صرامة أحكام الكفالة فيهما، والتي توحي بوجود تساهل، إن لم يكن تشجيعاً نشطاً، لفترات احتجاز طويلة قبل المحاكمة. الاستخدام المتكرر لهذين القانونين شهد سلسلة من القضايا البارزة التي أُوقف فيها أعضاء من المعارضة السياسية بموجب قانون مكافحة غسل الأموال، ومعتقلون سياسيون آخرون بموجب قانون مكافحة الإرهاب، حيث لجأ هؤلاء إلى المحاكم للطعن في اعتقالهم والمطالبة بالإفراج بكفالة، مع تحقيق نجاحات متفاوتة.
وإذا كانت الحرية الشخصية كثيراً ما وجدت نفسها أمام القضاء، فإن أنواعاً أخرى من الصدامات بين الأفراد والمجتمع والدولة لم تكن أقل حضوراً. فقد كانت الطعون ضد قرارات هدم المنازل والإخلاءات (التي انتشرت بشكل واسع بين عامي 2021 و2023 وأصبحت تُعرف باسم «عدالة الجرافات»)، إضافة إلى مشاريع التنمية واسعة النطاق التي تؤدي إلى تهجير السكان وتدمير البيئة، من أبرز الملفات التي تناولتها المحاكم في إطارها الدستوري.
يقول المؤلف: «حقاً، كانت فترة مثيرة، لكن هل هناك ما يربط بين هذه الصراعات المتنوعة بخلاف الإطار الزمني الذي وقعت فيه؟ فهي في النهاية شملت أطرافاً مختلفة تماماً، وروت قصصاً متباينة، واستدعت أجزاء مختلفة من الدستور. بحسب تفسير شائع، كانت جميع هذه القضايا أمثلة على ما يمكن وصفه ب«التشدد الدستوري» أو، بتعبير أكثر دقة، «حرب الخطوط الدستورية».
مستقبل التوازن الدستوري
يطرح المؤلف بإيجاز أطروحته المركزية التي يطورها عبر فصول الكتاب مفادها: رغم أن الدستور يُمثل ساحة للصراع بين رؤى مختلفة للسلطة، فإن تاريخه الممتد لسبعة عقود اتسم بما يسميه «نزعة مركزية». ويرى أن بذور هذه النزعة المركزية متجذرة في نص الدستور وتصميمه نفسه، ومع مرور السنين، جرى تغذيتها وترسيخها من قبل المحاكم، وخاصة المحكمة العليا، عبر سلسلة من الأحكام المفصلية (القسم الرابع). وبعد استعراض بعض الموضوعات المتكررة في الكتاب (القسم الخامس)، يختتم المؤلف بالتأكيد على أنه لفهم الكثير من التطورات الدستورية التي شهدتها الهند في الآونة الأخيرة، يجب البدء بطرح أسئلة نقدية حول الدستور ذاته وخريطة السلطة التي يتعامل معها (القسم السادس).
يمثل هذا العمل إضافة نوعية في الدراسات الدستورية والسياسية، لأنه يربطها بسياق السلطة والممارسة السياسية اليومية. ويشكل حواراً مفتوحاً مع الماضي والحاضر، يدعو إلى إعادة التفكير في توزيع السلطة وتعزيز التعددية والديمقراطية في الهند، ويضع أمام القارئ تساؤلات أساسية حول مستقبل النظام الدستوري وقدرته على مواجهة تحديات الحكم المركزي والبحث عن توازن جديد يحقق العدالة والمشاركة الحقيقية لجميع مكونات المجتمع الهندي.
0 تعليق