تزعم شركة (OpenAI) أن أحدث نماذجها (GPT-5)، يمثل قفزة نوعية نحو الذكاء الاصطناعي العام (AGI)، وهو مفهوم لطالما زعم قادة قطاع الذكاء الاصطناعي أنه قريب المنال.
ووفقًا لتعريف شركة (OpenAI) نفسها، فإن الذكاء الاصطناعي العام هو “نظام مستقل بدرجة عالية يتفوق على البشر في معظم الأعمال ذات القيمة الاقتصادية”. ومع ذلك، تبدو الحجج التي يقدمها سام ألتمان، الرئيس التنفيذي للشركة، لدعم كون نموذج (GPT-5) خطوة مهمة في هذا الاتجاه غير مقنعة بنحو لافت.
فقد أبدى بعض المستخدمين الأوائل خيبة أمل من أداء نموذج (GPT-5) في بعض المهام مثل الكتابة الإبداعية، في حين رأى آخرون أن الفجوة بينه ونماذج منافسة من جوجل وأنثروبيك لم تتقلص بالنحو المأمول. ومن ثم؛ ظهرت الكثير من التساؤلات حول مدى قدرته الفعلية على تجاوز حدود النماذج اللغوية الكبيرة الحالية، وهل يمثل بالفعل قفزة نوعية نحو ذكاء اصطناعي قادر على منافسة القدرات البشرية في معظم المجالات؟
لذلك يهدف هذا التقرير إلى تفكيك هذه الادعاءات من خلال تحليل الإمكانيات المعلنة للنموذج، والقيود التي لا يزال يواجهها، والابتكار التقني الذي يرتكز عليه، ووضع كل ذلك في سياق التطور الأوسع لمجال الذكاء الاصطناعي:
أولًا؛ ما الإمكانيات المعلنة في نموذج (GPT-5)؟
يزعم ألتمان أن نموذج (GPT-5) يظهر تحسينات ملحوظة مقارنةً بالنماذج السابقة، مثل:
- كفاءة أفضل في كتابة الأكواد البرمجية: يؤكد ألتمان أن النموذج أصبح أكثر قدرة على إنتاج أكواد برمجية دقيقة.
- تقليل الهلوسة وتحسين اتباع التعليمات: يزعم ألتمان أن النموذج يقع في الهلوسة (تقديم معلومات غير صحيحة) بمعدل أقل من الإصدارات السابقة، وأنه أكثر دقة في تنفيذ التعليمات، خاصةً تلك التي تتطلب خطوات متعددة أو استخدام برامج أخرى.
- زيادة الأمان: أصبح نموذج (GPT-5) أكثر أمانًا وأقل تملقًا للمستخدمين، إذ لا يميل إلى تقديم معلومات ضارة لمجرد إرضائهم.
ويصل ألتمان إلى حد القول إن نموذج (GPT-5) يقترب أكثر من فكرة المساعد الخبير، إذ يصفه بأنه النموذج الأول الذي يعطي انطباعًا وكأن المستخدم يتحدث مع شخص يحمل درجة الدكتوراه في أي موضوع.
ثانيًا؛ ما القيود التي لا يزال يواجهها نموذج (GPT-5)؟
تبدو التحسينات التي يقدمها نموذج (GPT-5)، كأنها مجرد تطورات تدريجية على نماذج سابقة، وليس قفزة نوعية نحو الذكاء الاصطناعي العام، فالنموذج لا يزال يفتقر إلى القدرة على التعلم من تجاربه الخاصة، كما أنه يظهر قصورًا واضحًا في فهمه للعالم الحقيقي، والدليل على ذلك محاولته الفاشلة لرسم خريطة لأمريكا الشمالية، التي توضح أنه يفتقر إلى فهم السياق.
وعلاوة على ذلك؛ لا يزال نموذج (GPT-5) غير قادر على تحقيق دقة عالية في الاختبارات العلمية المعقدة مثل: (Humanity’s Last Exam)، الذي يتضمن أسئلة معقدة في مختلف المجالات العلمية، إذ حقق النموذج نسبة دقة لم تتجاوز 42%، وهي نتيجة أقل من منافسه المباشر نموذج (Grok 4) لشركة (xAI)، الذي حقق نسبة دقة بلغت 44%. ويثير هذا الأداء الشكوك حول قدرة (GPT-5) على التفكير والاستدلال بنحو عميق، وهي سمات أساسية للذكاء الاصطناعي العام.
وتجدر الإشارة إلى أن (Humanity’s Last Exam)، هو اختبار معياري صُمم لتقييم قدرات نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة، ويهدف هذا الاختبار إلى تجاوز المعايير التقليدية، التي أصبحت نماذج الذكاء الاصطناعي الحالية قادرة على التفوق فيها بسهولة.
ثالثًا، ما الابتكار التقني الذي يرتكز عليه النموذج الجديد؟
يكمن الابتكار التقني الرئيسي وراء نموذج (GPT-5) في إدخال مفهوم (الموجّه اللحظي الذكي) Real-Time Router، وهو عبارة عن آلية تعمل على تحديد النموذج الأنسب من بين نماذج (GPT) المختلفة للإجابة عن سؤال معين.
بعبارة أخرى، يقرر الموجّه مقدار الجهد الحسابي الذي يجب استثماره في الإجابة، ويتعلم من ردود الفعل السابقة لتحسين خياراته بمرور الوقت.
وتشمل خيارات التفويض نماذج (GPT) السابقة، بالإضافة إلى نموذج (GPT-5 Thinking) الجديد، الذي يُفترض أنه أعمق في الاستدلال، لكن ما هو هذا النموذج الجديد بالضبط؟ لا تقدم شركة (OpenAI) أي تفاصيل واضحة عنه؛ فهي لا تذكر أنه يعتمد على خوارزميات جديدة أو أنه دُرب على بيانات جديدة.
ويفتح هذا الغموض الباب للتكهنات، إذ قد يكون هذا النموذج ليس سوى آلية متطورة للتحكم في النماذج الحالية، عبر دفعها للعمل بنحو أكثر تركيزًا من خلال استعلامات متكررة حتى تصل إلى النتيجة المرجوة، مما يمنح انطباعًا بالتفكير العميق بينما هو في الواقع مجرد إعادة صياغة محسّنة.
باختصار، قد لا يكون نموذج (GPT-5) خطوة مهمة نحو الذكاء الاصطناعي العام، بل مجرد تحسين تدريجي وذكي للنماذج الحالية.
ولكن هل يعني ذلك أن النماذج اللغوية الكبيرة وصلت إلى مرحلة الثبات؟
شهد عالم الذكاء الاصطناعي تحولًا كبيرًا في عام 2017 مع اكتشاف باحثين في جوجل لبنية جديدة للذكاء الاصطناعي سمحت بالتقاط أنماط معقدة داخل تسلسلات الكلمات التي تشكل اللغة البشرية، فقد قدموا في ورقتهم البحثية التي حملت عنوان (Attention Is All You Need)، مفهوم (المحولات) Transformers، وهي أنظمة تساعد نماذج الذكاء الاصطناعي في التركيز على أهم المعلومات في البيانات التي تُحللها، وقد فتح هذا الاكتشاف الباب أمام تطوير ما يُعرف اليوم باسم النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs).
وتميزت النماذج اللغوية الكبيرة بقدرتها على محاكاة الذكاء البشري بنحو متزايد عبر تحليل كميات ضخمة من النصوص، وتعتمد هذه النماذج، مثل: ChatGPT، على ربط توجيه المستخدم بالاستكمال الأكثر ترجيحًا وفقًا للأنماط الموجودة في بيانات التدريب.
ومع ذلك؛ تعتمد هذه النماذج في جوهرها على مبدأ بسيط، فهي تعمل كجداول ضخمة تربط بين المحفزات (طلبات المستخدمين) والاستجابات، فعندما تقدم طلبًا (prompt)، يبحث النموذج في هذا الجدول الضخم ليجد أفضل رد ممكن.
قد تبدو هذه الفكرة بسيطة، ولكن المثير للدهشة هو أن هذه النماذج استطاعت التفوق على أنظمة ذكاء اصطناعي أخرى أكثر تعقيدًا، ليس بالضرورة من حيث الدقة والموثوقية، بل من حيث المرونة وسهولة الاستخدام، مما جعلها تكتسب شعبية واسعة وتغير من طريقة تفاعلنا مع الذكاء الاصطناعي.
ومع ذلك، لا يزال الجدل قائمًا حول كون هذه النماذج قادرة على تحقيق الاستدلال الحقيقي أو فهم العالم بطرق مشابهة للبشر، أو التعلم من تجاربها لتحسين سلوكها، وهي مكونات أساسية لتحقيق الذكاء الاصطناعي العام.
تقنية (الموجّه).. ابتكار أم إعادة صياغة؟
ظهرت في السنوات الأخيرة صناعة متكاملة تركز في ترويض النماذج اللغوية الكبيرة ذات الأغراض العامة لجعلها أكثر موثوقية في تطبيقات محددة، إذ تعمل هذه الشركات على صياغة توجيهات فعالة، وتوجيه النماذج عدة مرات، أو استخدام نماذج متعددة لتحقيق النتائج المرجوة.
ويأتي هنا نموذج (GPT-5) بميزته الجديدة، وهي تقنية (الموجّه)، التي تدمج هذه الفكرة في صميم النموذج، وإذا نجحت هذه الخطوة، فمن المحتمل أن تقل الحاجة إلى مهندسي (أوامر الذكاء الاصطناعي)، الذين يعملون في الشركات الوسيطة، والذين يقومون بهذه التعديلات. كما ستجعل (GPT-5) أقل تكلفة للمستخدمين، لأنه سيقدم فائدة أكبر دون الحاجة إلى تحسينات إضافية.
ومع ذلك، قد يكون تقديم تقنية (الموجّه) اعترافًا ضمنيًا من شركة (OpenAI) بأننا وصلنا إلى نقطة لا يمكن فيها تحسين النماذج اللغوية الكبيرة بنحو أكبر، وإذا كان هذا صحيحًا، فإنه يثبت صحة رأي العلماء والخبراء الذين يجادلون منذ مدة طويلة بأنه لن يكون من الممكن التغلب على القيود الحالية للذكاء الاصطناعي دون تجاوز بنية النماذج اللغوة الكبيرة نفسها.
باختصار، لا يمكن الوصول إلى مرحلة الذكاء الاصطناعي العام عن طريق زيادة حجم النماذج أو تعقيدها، بل يجب البحث عن بنى جديدة تمامًا.
ولكن يعيد هذا التوجه إلى الأذهان مفهوم (الاستدلال الماورائي) meta-reasoning، الذي ساد في التسعينيات، والذي يقوم على فكرة (الاستدلال حول الاستدلال)، أي تقسيم المهام المعقدة إلى مشكلات صغيرة يمكن حلها بمكونات أكثر تخصصًا. وقد كان هذا النموذج هو السائد في الذكاء الاصطناعي قبل أن يتحول الاهتمام إلى النماذج اللغوية الكبيرة.
لذلك قد يمثل إطلاق (GPT-5) نقطة تحول مهمة في عالم الذكاء الاصطناعي، فمع أنه قد لا يُعيدنا بالكامل إلى الأساليب القديمة، لكنه قد يكون بداية نهاية عصر النماذج الضخمة، التي يستحيل فهم عملياتها الداخلية، والتوجه نحو إنشاء أنظمة ذكاء اصطناعي يمكننا فهمها والسيطرة عليها وتطويرها وفقًا لأسس هندسية واضحة، مما يذكرنا بأن الرؤية الأصلية للذكاء الاصطناعي التي لم تكن تهدف فقط إلى استنساخ الذكاء البشري، بل إلى فهمه بعمق.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط
0 تعليق