جمال عبد الناصر يكتب: نابولي مليونيرة..عبور درامي في تأويلات الجوع والحرب والكرامة

عين 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

 

شهد مهرجان المسرح العالمي بالمعهد العالي للفنون المسرحية عرضًا مميزًا لمسرحية «نابولي مليونيرة» من إخراج أحمد البنهاوي، في معالجة مصرية جريئة للنص الإيطالي الشهير الذي كتبه إدواردو دي فيليبو عقب الحرب العالمية الثانية، والنص الأصلي يعكس الصراع الطبقي والانهيار الأخلاقي في نابولي، وقد أحسن البنهاوي توظيفه في إطار محلي يعكس هموم الإنسان العربي عامة، والمصري خاصة.

تدور الأحداث حول عائلة تعيش في نابولي بإيطاليا ، حيث تجد الأم "أماليا" في الأزمة الاقتصادية فرصة لتحقيق الثراء، بينما يقف الأب "جنارو" موقف الرفض لمحاولاتها الانتهازية، وهذا التباين يخلق صراعًا دراميًا قويًا يكشف عن الوجه الآخر للإنسانية في ظل الظروف الصعبة، وتميز العرض برؤية إخراجية واعية عمدت إلى اختزال الفضاء المسرحي من دون الإخلال بجوهر النص، حيث اعتمد الديكور على البساطة والرمزية: سرير وطاولة ومقاعد، مدخل المنزل، وحيّز الشارع الخارجي، ما منح الممثلين حرية الحركة وجعل المتفرج في مواجهة مباشرة مع الشخصيات وصراعاتها الداخلية.

أحمد البنهاوي وبسمة ماهر في عرض نابولي مليونيرة
أحمد البنهاوي وبسمة ماهر في عرض نابولي مليونيرة

أحمد البنهاوي مخرجا ركز في رؤيته الإخراجية على الجوهر الإنساني للنص، وتقديم رؤية معاصرة للقضايا التي يطرحها، واعتمد على أسلوب واقعي يلامس الحياة في تلك الفترة ، مع إضفاء لمسات فنية تعزز من جمالية العرض وتأثيره، ونجح في إدارة الممثلين وتوجيهم ببراعة، واستخدام عناصر العرض لخدمة الرؤية الفنية، ولم يكتف بإعادة إنتاج المأساة النابوليتانية كما هي، بل سعى إلى قراءة جديدة تفضح التحولات الاجتماعية الراهنة، وتؤشر إلى آليات السقوط الأخلاقي في المجتمعات التي تنهكها الحاجة، وتميز العرض أيضًا بحسن توظيف الفضاء المسرحي الضيق، إذ تحولت خشبة المسرح إلى نابولي صغيرة تعج بالازدحام والفساد والمقاومة، دون الوقوع في فخ الافتعال، ورغم بساطة الديكور، كان هناك حضور بصري قوي بفضل تحريك الممثلين بعناية، واستخدام الأزياء التي عكست الطبقات الاجتماعية المختلفة.

ريم السحرتي في مسرحية نابولي مليونيرة
ريم السحرتي في مسرحية نابولي مليونيرة

من الناحية التمثيلية، كان الأداء متماسكًا على نحو ملحوظ، إذ أجاد الممثلون التعبير عن تناقضات شخصياتهم النفسية والاجتماعية، وكان أداء الممثلين جميعًا انعكاسا لعمق فهمهم للشخصيات وقدرتهم على تجسيدها بصدق وإقناع، وقدمت بسمة ماهر دور أماليا بحرفية واحترافية ، وكان حضورها المسرحي مشحونًا بطاقة تمثيلية تنبض بالتحكم الإيقاعي والتلوين في النبرة والحركة، تأكيدا على وعيها العميق بالنص وبالبعد الإنساني للدور، وأحمد البنهاوي " ممثلا " في دور جنارو أظهر تحولات الشخصية وأجاد تجسيد التحولات الدرامية لها، ونجح في إبراز التوترات الداخلية التي تحكم علاقتها ببقية الشخصيات، وإبراهيم الألفي في دور "بيبي" كان نموذجا مثاليا لتمثيل الروح الإيطالية من خلال شخصيته، وهو ممثل يمتلك أدواته ويمتلك قدرا من الكاريزما والقبول .

شادي هجرس في مسرحية نابولي مليونيرة
شادي هجرس في مسرحية نابولي مليونيرة

 ولفتت ريم السحرتي الأنظار في أدائها لدور أسونتا، حيث قدّمت الشخصية بخفة ظل محبّبة، وذكاء تمثيلي يعكس حضورًا كوميديًا متزنًا لا يسقط في الابتذال، واستطاعت أن تمنح الدور حيوية خاصة من خلال الإيقاع السلس في الأداء، والتوقيت الدقيق في إلقاء الجملة الساخرة، وهو ما يدل على وعي عالٍ بأدوات الكوميديا المسرحية، كما امتلكت قدرة لافتة على التفاعل مع بقية الممثلين، ونجحت في ترك أثر واضح في المشهد العام للعرض، مؤكدة مكانتها كموهبة كوميدية واعدة، وبهاء سليمان في دور أميديو كان مميزا جدا ويمتلك حضورا علي خشبة المسرح وتميّز أداؤه بالصدق الفني والانضباط، ، وأجادت شروق طاهر في دور ماريا روزاريا، وتمكّنت من إبراز الطبقات النفسية للشخصية، متنقلة بسلاسة بين لحظات القوة والانكسار، وبين الانفعال الداخلي والانضباط الخارجي، مما أضفى على حضورها صدقًا عاطفيًا وتوازنًا تعبيريًا، أوأجادت  ياسمين أحمد في دور مارجريتا، وفاطمة إسماعيل في دور الطبيبة تريزا دورهما في حدود المساحة المتاحة لهما في العرض .

أما نورا عصمت في دور " أديليدا " كانت أكثر من رائعة وهي ممثلة تملك خبرة في الأداء وفي التعامل علي خشبة المسرح بأدائها المتقن، حيث قدّمت الدور بثقة لافتة وخبرة واضحة، وأداؤها اتسم بالثبات والانسيابية، وجاء صوتها وإيقاعها الجسدي في تناغم تام مع السياق الدرامي، وهو ما يعكس موهبة ناضجة ووعيًا احترافيًا بتقنيات التمثيل المسرحي.

نورا عصمت تحية جمهور مسرحية نابولي مليونيرة
نورا عصمت تحية جمهور مسرحية نابولي مليونيرة

وقدم محمد أسامة الهادي دور إريكو ببراعة الممثل المحترف الذي يمتلك أدواته ويوظفها جيدا لخدمة الشخصية ، أما شادي هجرس في دور "ريكاردو " فقد قدم الدور ببراعة لافتة، مُتقنًا تفاصيلها النفسية والانفعالية بحسّ عالٍ من التوازن بين الأداء الداخلي والظاهري، وتميّز أداؤه بالصدق الفني والانضباط، وهو ما جعله واحدًا من أبرز عناصر العرض، ومحمد عيسى الشخاترة في دور الصول تشيا رغم صغر حجم الدور لكنه قدمه باحترافية . وقد نجح كل ممثل في تقديم شخصيته بأبعادها المختلفة، وإبراز التحولات النفسية التي تمر بها خلال الأحداث.

مشهر من مسرحية نابولي مليونيرة
مشهر من مسرحية نابولي مليونيرة

 

أما الديكور على الرغم من بساطته، كان الديكور معبرًا جدًا، ونجح في تجسيد البيئة الاجتماعية التي تدور فيها الأحداث، ونقل الحالة النفسية للشخصيات، حيث يعكس التكدس والفوضى والمعاناة التي تعيشها العائلة، وقد أشرف على تصميم الديكور ملك يحي

والإضاءة قامت بتصميمها جاسمين أحمد، والتي لعبت دورًا هامًا في خلق الجو العام للمشاهد، وإبراز التعبيرات الوجهية للممثلين، وتوجيه بصر الجمهور إلى النقاط المحورية في العرض، وقام أشرف فرحات بإعداد الموسيقى، والتي ساهمت في إضفاء بعد عاطفي على الأحداث، وتعزيز تأثيرها على المتلقي، ورغم قلتها، كانت ذات طابع درامي مناسب ساهم في تعميق الشعور بالمأساة، كما ساعدت الأزياء في تحديد هوية الشخصيات، وإبراز مكانتها الاجتماعية، وعكس التغيرات التي تطرأ عليها خلال الأحداث. وساعد في الإخراج كل من عبد الرحمن المنسي وسارة أيمن، بينما تولت شمس سلام مهمة المخرج المنفذ.

عرض "نابولي مليونيرة" يؤكد أن المسرح حين يُدار برؤية فنية صادقة، يمكن أن يصبح جسرا بين النصوص العالمية والوجدان المحلي، والعرض يطرح الأسئلة أكثر مما يقدم الإجابات، ويمنح جمهوره فرصة التفكير في المعنى العميق للخلاص الأخلاقي والمجتمعي، ونجح صناع العرض في تقديم النص الكلاسيكي بروح معاصرة، وإبراز قضاياه الإنسانية الخالدة، ليقدموا لنا تجربة مسرحية مؤثرة ولا تُنسى، وهذا العرض يمثل إضافة قيمة للمسرح المصري، ويؤكد على قدرة الشباب المسرحي على تقديم أعمال فنية رفيعة .

محمد أسامة الهادي وشروق طاهر
محمد أسامة الهادي وبسمة ماهر 

وفي المجمل، قدّم عرض نابولي مليونيرة تجربة مسرحية ثرية تجمع بين الإخلاص للنص الأصلي واللمسة الإخراجية الواعية التي تمنحه طابعًا خاصًا. وقد تألقت مجموعة الممثلين بأداء جماعي متناغم، تميّز فيه كل ممثل بطريقته، وهذا العرض أثبت أن المسرح لا يزال قادرًا على خلق الدهشة وتحريك الوجدان حين يتوفر له الإخلاص الفني والتعامل الجاد مع أدوات التعبير المسرحي.

ابراهيم الالفي في مسرحية نابولي مليونيرة
ابراهيم الالفي في مسرحية نابولي مليونيرة

 

مشهد من مسرحية نابولي مليونيرة
مشهد من مسرحية نابولي مليونيرة

 

 

 

أخبار ذات صلة

0 تعليق