يعمل إديسون إيرل، وهو شاب حاصل على شهادة جامعية، متدرّباً لدى “جامعة بورنموث للفنون” بإنجلترا، ويقدم أداء مهنياً لامعاً.
أنتج إيرل، كمية محتوى تسويقي غير مسبوقة للجامعة، ونجح في مضاعفة عدد متابعيها عبر “إنستجرام” خلال سبعة أشهر مضت.. إلا أنه يجد صعوبة نسب هذا الإنجاز إلى نفسه، لأن “تشات جي بي تي” تولّى الجزء الأكبر من العمل.
على مدى العامين الماضيين، انتقل إديسون، من تدوين أفكاره على الورق إلى إمضاء معظم يومه محاوراً “تشات جي بي تي”، فيسأله مثلاً: “هل يمكنك إعادة صياغة رسالة البريد الإلكتروني هذه؟” أو “ما رأيك في هذا المنشور وهذا الحدث؟” لا يقتصر استخدامه للتطبيق على الشأن المهني فحسب، بل يطلب مساعدته أيضاً في حياته اليومية، من اختيار طعامه إلى انتقاء ملابسه.
“متلازمة المحتال”
يعترف إيرل أنه بات يعتمد بشكل كبير على هذه الأداة التي أطلقتها شركة “أوبن إيه آي” أواخر 2022، ويستخدمها حالياً أكثر من 400 مليون شخص حول العالم بانتظام.
تُسوق هذه الأداة، وكذلك برمجيات مشابهة مثل “جيميناي” من “جوجل” تابعة “ألفابت” و”كلود” من شركة “أنثروبيك”، كما لو أنها متدرّب رقمي أو مساعد بحث.
أما السلبيات التي ذكرها بعض المتدرّبين والمبتدئين الذين تحدّثت إليهم، فهي أن الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي بدأ يعرقل تقدمهم المهني ويقوّض ثقتهم بأنفسهم ويُفاقم شعورهم بما يسمى “متلازمة المحتال”.
قال إيرل: “بلغت ثقتي به حدّاً أفقدني الإيمان بقراراتي وطريقة تفكيري”.
كشفت دراسة من شركة الاستشارات الإدارية الهولندية “بيرينج بوينت” هذا العام، شملت أكثر من 300 مدير في أوروبا والولايات المتحدة، أن الموظفين الشباب يستخدمون أدوات الذكاء الاصطناعي بوتيرة أعلى من المديرين متوسطي المستوى وكبار التنفيذيين، وذلك غالباً لأنهم ما يزالون في طور بناء “بوصلتهم الداخلية”.
أما كبار المسؤولين، فغالباً ما يتجاهلون هذه الأدوات بسبب ثقتهم بخبراتهم، ربما أكثر من اللازم، عكس الموظفين الجدد.
يتذكّر إيرل، كم كان يفخر بعمله قبل أن يبدأ باستخدام “تشات جي بي تي”، أما الآن، فيشعر بفراغ داخلي لا يستطيع تحديد مصدره.
قال: “أصبحت أشد كسلاً .. ألجأ مباشرة إلى الذكاء الاصطناعي، لأنه ترسخ في ذهني أنه سيقدّم إجابة أفضل”.
هذا التعلٌق قد يكون تأثيره كبيراً على شاب في مقتبل عمره.
قالت مسئولة موارد بشرية هذا الأسبوع إن موظفة من الجدد لديها اعترفت بأنها لا تعرف كيف تساهم في اجتماعات الموظفين.
ولدى سؤالها عن السبب، قالت إنها بدأت مسيرتها المهنية خلال فترة الإغلاق أثناء جائحة كورونا، واعتمدت على ميزة “رفع اليد” في منصة الاجتماعات الافتراضية “مايكروسوفت تيمز”.
ومع غياب هذا في الحياة الواقعية، كان عليها أن تتعلّم كيف تبادر بالكلام وتُعبّر عن رأيها في الاجتماعات.
تعلّق يطال كافة جوانب الحياة
لا يقتصر تأثير هذا التعلق بالذكاء الاصطناعي على آداب التعامل في المكتب، بل قد يتسبب أيضاً بتراجع مهارات التفكير النقدي، وهي ظاهرة حذّر منها باحثون لدى “مايكروسوفت” كما لاحظها إيرل.
قال: “أشعر أن عقلي أصبح في حالة خمول .. لم أعد أتحدى نفسي ذهنياً، ولا أتعمق في أفكاري”.
بطبيعة الحال، الأمر ليس أبيض أو أسود، إذ إن “تشات جي بي تي” له جوانب إيجابية كثيرة.
فقد ساعد إيرل، على سبيل المثال، في تتبّع ما ينفقه حين يقصد الحانة وأماكن أخرى، ما مكّنه من ضبط ميزانيته للمرة الأولى.
كما استخدم كاميرا هاتفه لتصوير رفوف المتاجر حتى يساعده التطبيق في اختيار الملابس التي يشتريها، ما عزّز ثقته بمظهره.
لكن إيرل يفتقد لمتعة الاستكشاف عند التسوّق وارتكاب الأخطاء.
قال: “ذلك الشعور الذي كان ينبض في داخلي عندما أدخل متجراً وألمح قطعة تخاطب ذوقي .. لم أعد أحسّ به .. صرت أشتري الأشياء لمجرّد أن (تشات جي بي تي) قال لي أن أفعل”.
قد يبدو هذا مثالاً مبالغاً فيه، إلا أن أدلة متزايدة تشير إلى أن كثيرين، ولا سيّما من فئة الشباب الذين اعتادوا استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في أداء واجباتهم المدرسية، باتوا يعوّلون على هذه التقنية في مختلف جوانب حياتهم المهنية والشخصية.
تعزو إحدى الدراسات الحديثة ذلك إلى الأسلوب الجذّاب الذي تُنجز فيه روبوتات المحادثة المهام بسرعة فائقة، وأيضاً إلى ردودها الودودة.
ردود متملّقة
تأثير هذه الإجابات الودودة قد يكون أكبر ممّا نتصور.
تخيّل مثلاً الشعور السار الذي ينتابك حين تتلقى مديحاً، وخذ في عين الاعتبار أن “تشات جي بي تي” وبرامج الذكاء الاصطناعي المنافسة له غالباً ما تقدم إجابات تتضمّن الكثير من الإطراء والتشجيع.
وقد أقرّ سام ألتمان، الشريك المؤسّس لـ”أوبن إيه آي”، قبل فترة قصيرة بأن النسخة الأحدث من الأداة باتت “تميل إلى التملّق أكثر من اللازم”، وأن فريقه يعمل حالياً على كبح ذلك.
أظهر بحث من “أوبن إيه آي” نشرت نتائجه الشهر الماضي أن غالبية مستخدمي “تشات جي بي تي” لديهم علاقة صحّية مع المنصة، رغم أن بعض المستخدمين الذين ينكبون عليها بدأوا يظهرون مؤشرات على “تعلّق عاطفي”.
وقد خلصت التجربة العشوائية الخاضعة للمراقبة التي شملت 981 مشاركاً إلى أن هذه الفئة تُظهر نمط “استخدام إشكالي”.
في غضون ذلك، يواجه سام ألتمان تحدياً في الحفاظ على توازن دقيق، يحافظ من خلاله على مستخدمي “تشات جي بي تي” الذين يدفعون اشتراكات أو ربما سيشاهدون الإعلانات مستقبلاً، دون تحويل المنصة إلى سبب إضافي لإدماننا على الشاشات الصغيرة.
أدرك إيرل أنه ربما أصبح أسيراً لعادة استخدام الذكاء الاصطناعي، فقرّر الأسبوع الماضي إلغاء اشتراكه في “تشات جي بي تي”، الذي يكلّفه 20 جنيهاً إسترلينياً شهرياً (30 دولاراً).
وما كاد يمرّ يومان حتى بدأ يشعر أنه ينجز أكثر في عمله، والعجيب أنه لاحظ تحسناً في إنتاجيته، وقال: “أشعر أنني أعمل عن حق مجدداً .. أُخطّط وأفكّر وأكتب”.
إضعاف القدرات العقلية
لكن العزوف عن استخدام الذكاء الاصطناعي برمته قد لا يكون الحل، خاصة في ظل اعتماد الآخرين على أدواته لكسب ميزة تنافسية.
إن التحدي الذي يواجهه إيرل وسواه من الشباب في سوق العمل هو استخدام هذه الأداة دون أن يدعوها تضعف قدراتهم الذهنية.
قالت شيريل آينهورن، مؤسسة شركة الاستشارات “ديسيجن سيرفيسيس”، الأستاذة المساعدة في جامعة كورنيل: “التفكير النقدي عضلة تحتاج إلى تمرين مستمر”.
نصحت آينهورن باتباع خطوتين من أجل تجنب تفويض كل المهام إلى روبوتات المحادثة، أولاً “فكّر بقرارك ثم اختبر متانته بمساعدة الذكاء الاصطناعي”.
أما النصيحة الثانية، فهي التحقّق من إجابات روبوتات المحادثة ومساءلتها.
قالت: “يمكنك أن تسأله: كيف توصلت إلى هذه التوصية؟”، مضيفة أن الذكاء الاصطناعي مثل البشر قد يكون منحازاً.
سعي إيرل إلى تحقيق توازن صحي في استخدام الذكاء الاصطناعي من أبرز التحديات التي تواجه جيله.
لكن المسئولية لا تقع عليه وحده؛ فشركات التقنية بدورها مطالَبة بابتكار منتجات تعزّز القدرات الذهنية بدل اضعافها.
كما لا بدّ من فتح نقاش أوسع حول كيفية ترسيم حدود صحية في التعامل مع الذكاء الاصطناعي.
0 تعليق