اشار وزير المالية ياسين جابر الى ضرورة منح لبنان فرصة ليتنفس بعدما واجهه من سلسلة أزمات ضخمة، بدءاً بالنزوح السوري مع بدايات الثورة في 2011، مروراً بالفراغ الرئاسي والأزمة الاقتصادية وانفجار مرفأ بيروت، وصولاً إلى العدوان الإسرائيلي في العام 2024. وإذ شدد على أن الإصلاح هو ضرورة قصوى ومطلب لبناني قبل أن يكون دولياً، اعتبر أن من الأهمية بمكان فهم الواقع اللبناني وإعطاء فسحة للحكومة التي شكلت قبل أسابيع قليلة لكي تضع البلاد على سكة الإصلاح الشامل، اقتصادياً وسياسياً.
ورداً على من يتحدثون عن وصاية وشروط دولية، وسال جابر في حديث الى "الراي" الكويتية، "هل يعقل أن يشتم المريض الطبيب إذا طلب منه تنفيذ بعض الأمور لكي يعالج من حالته التي يعاني منها؟"، وجزم بأن القرار السياسي موجود في شأن مسألة السلاح، وبات واضحاً سواء في خطاب القسم لرئيس الجمهورية العماد جوزف عون، أو البيان الوزاري للحكومة برئاسة القاضي نواف سلام، لكن لبنان يجب أن يتنفّس، ولا يُعقل أن يقطع عنه الأوكسجين ويطلب منه التنفس.
واردف "لو طلب منا صندوق النقد مثلاً معالجة ملف الكهرباء الذي تسبب في هدر أموال كثيرة جداً في الماضي، الحكومة اللبنانية أصلاً تريد إصلاح هذا القطاع، وتحويله إلى قطاع رابح، والأهم من ذلك توفير الخدمة للمواطن الذي قضى سنوات من دون كهرباء، كذلك الأمر بالنسبة لقطاع الاتصالات، نريد أن نقدم خدمة أفضل وأن يعود هذا القطاع لأرباحه السابقة".
واعرب جابر عن أسفه الشديد لأن لبنان تحمّل أكثر بكثير مما يحتمل، فمنذ أكثر من 15 سنة تقريباً يعاني من تداعيات الأزمة والحرب في سوريا التي أدت إلى نزوح أكثر من مليوني سوري للداخل اللبناني. وكشف في هذا الصدد عن فرضة طرحها على وفد أميركي زاره أخيراً، قائلاً: "قلتُ لهم تصوّروا لو أتى للولايات المتحدة 120 مليون مكسيكي (بما نسبته 40 في المئة من سكان الولايات المتحدة)، هل تستطيعون تحمّلهم؟ لقد أتى إلينا نازحون يمثلون نحو 40 في المئة من نسبة عدد سكان لبنان، وعملياً تحمّلنا ذلك، ومن ثم أتت أزمة انخفاض أسعار النفط في 2014، وانخفضت تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج، وتدهور على إثر ذلك ميزان المدفوعات. ونتذكر في تلك الفترة أيضاً حدثت تفجيرات لداعش، وسيارات مفخخة في بيروت ومناطق عدة في لبنان وكانوا على الحدود اللبنانية، هذا كله حصل... بعد ذلك جاءت أزمة فراغ الرئاسة اللبنانية بين 2014 و2016، ثم اأزمة الاقتصادية في 2019، ثم انفجار مرفأ بيروت في 2022، وجاءت أيضاً أزمة كورونا".
واشار إلى أن الوضع السياسي بعد ذلك كان صعباً مع انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ووجود حكومة تصريف أعمال عاجزة عن اتخاذ قرارات لإدارة شؤون البلاد، ومجلس نيابي معطل... كل هذه الأمور تشابكت مع بعضها البعض، عقب ذلك كله حدثت الحرب، ومرّت علينا أحداث جسام، تركت أثراً كبيراً على البلاد. لذلك فإن عملية الإصلاح اليوم أصبحت ضرورة قصوى، على الرغم من أنها تأخرت كثيراً، وكان لا بد أن تبدأ.
واعتبر بانه في النهاية مطلوب من لبنان أن تكون هناك عودة إلى الأمن من دون سلاح، فالجيش هو السلاح والأمن، لذلك نريد أولاً تسليح الجيش وإعادة تجهيزه... لبنان بدو ياخد نَفَس، فهل يصح أن نقطع عنه الأوكسجين ونطلب منه أن يتنفس؟. وإذ شكر الدول التي تساعد لبنان، شدد الوزير على أن المهم أن القرار السياسي متخذ، ويتضح ذلك من خطاب القسم لرئيس الجمهورية والبيان الوزاري للحكومة... الأمور بحاجة للعلاج، فحينما يقول الرئيس سنعقد طاولة ونضع خطة دفاعية... فالسلاح الموجود يجب إعطاؤه للجيش، لتعزيز قواه.
ورفض الوزير اعتبار وجود وصاية أميركية على لبنان، بعد الإجراءات الأخيرة في مطار بيروت، وما تردد أيضاً عن مرفأ بيروت، فالأمر ليس قصة وصاية أميركية، لقد استقبلت وفداً أميركياً قبل قدومي للكويت بيوم واحد، وكان اجتماعهم مع قائد الجيش اللبناني جيداً جداً... لا ينبغي أن ننفذ أي شيء على عجل.
وعن المطار، اوضح وجهة النظر اللبنانية بالقول: "إن أمن مطار بيروت ضروري للبنانيين وغيرهم، فهل نريد مثلاً أن يكون لبنان مصدراً لتهريب المخدات؟ بالتأكيد لا. لذلك يجب التشدد في المطار والمنافذ لأجل منع عمليات تهريب الممنوعات كالسلاح أو المخدرات والأموال وغيرها". واكد بان لبنان سيكون دولة تحترم القوانين التي تصدرها، لديناً مثلاً قانون 44/ 2015، لمكافحة تبييض الأموال ونحن نتقيّد به. نفس الأمر ينطبق على المرفأ، حيث يجب أن يكون هناك انتظام لأجل عائدات الجمارك، فلن نستطيع أن نحسن مداخيلنا إذا لم يكن هناك تنظيم لها.
وفي ما يتعلق بالعمل مع حاكم مصرف لبنان الجديد كريم سعيد، خصوصاً بعد تعيينه بالتصويت في مجلس الوزراء وإعلان رئيس الحكومة أنه لم يكن مرشحه، اوضح وزير المالية أنه تمت معالجة الموضوع، وعُقد اجتماع بين الجانبين... وفي النهاية تم تعيين حاكم للمصرف الذي عليه أن يقوم بما هو صحيح لخدمة البلد واقتصادها وسياستها النقدية، وطالما يقوم بعمله بشكل جيد فأعتقد أنه لن توجد خلافات بينه وبين الحكومة، وأنا كوزير مالية لدي وصاية على المصرف المركزي، ولبنان من الدول الأولى التي طبقت استقلالية مصرفها المركزي، لكن رغم ذلك فإنه ينبغي ألا ينفرد المصرف بالقرارات المتعلقة باقتصاد البلد، ووزير المالية له الحق أن يعترض ولديه (فيتو) على أي قرار غير مناسب قد يصدر عن اجتماع مجلس إدارة المصرف المركزي يضرّ مثلاً باقتصاد البلد وسياستها المالية والنقدية، وهذا الأمر سيكون موجوداً لديّ إذا حدث ذلك.
ودعا جابر إلى ضرورة تفهم وضع الجيش اللبناني والظروف الصعبة التي يمر بها، في ظل المهام الكبيرة المنوطة به على امتداد مساحة لبنان، مشيراً إلى أنه في الجنوب هناك إلحاح شديد على موضوع السلاح... والجيش اللبناني قام بمهمة رائعة بمقدرات قليلة، ويجب أن نُقدّر ما قام به في المرحلة الماضية التي كانت صعبة على لبنان، مذكّراً بأنه سُمح للجندي بأن يعمل خارج وظيفته لكي يستطيع أن يعيش، والبعض لا يُقدّر ما حصل للبلاد من أزمات، مثل الانهيار المالي... واليوم الجيش يستجمع قواه، وقد فعل الكثير وصادر الكثير من الأسلحة، ولم يروَ ذلك في الإعلام، وقبل فترة ذكر الجيش مئات المواقع التي ذهب إليها وتم تصوير الأنفاق التي وصل إليها، لقد قام بمهمة ممتازة مع قوات اليونيفيل.
وشدد على ضرورة دعم الجيش بكل السبل، موضحاً أنه قبل فترة عُرض على جدول أعمال مجلس الوزراء بند تطويع 4500 جندي جديد و100 ضابط، وطبعاً رئيس الجمهورية سألني كوزير مالية عن الوضع المالي وإمكانية توفير ميزانية لذلك، فقلتُ له: فخامة الرئيس، أياً كان الوضع المالي يجب أن نقوم بتدبير أموال لهذا الأمر، وأن نسير قدماً في تطبيقه، لأنه استثمار في الأمن وليس مصروفاً، وبالفعل جرت الموافقة الرسمية على هذا الموضوع.
وكشف عن بعض الصعوبات التي عانى منها الجيش، خصوصاً في الأسابيع الأولى لانتشاره في منطقة جنوب الليطاني في جنوب لبناك، قائلاً: في أوائل المرحلة التي انتشر فيها هؤلاء الجنود، كانوا ينامون بالآليات والدبابات وسط الخراب والدمار، لذلك يجب تقدير الأمور والأوضاع الصعبة، نحن في مرحلة لا بد أن ينهض فيها البلد ويبني قواه. ولفت إلى أن مهام الجيش لا تقتصر على الجنوب، فهناك مهام لا تقل أهمية في الشرق (لضبط الحدود مع سوريا) وأيضاً في الداخل، قائلاً: "هذا الجيش منتشر في الجنوب حالياً، ولا بُدّ أن نُقدّر دوره، فلدينا مشاكل في الشرق والشمال وفي قلب البلد، ولدينا كذلك مشاكل الأمن الداخلي".
وخلص إلى التأكيد أن القرار السياسي اتخذ، وصار هناك تفهم من قبل جميع المعنيين لمرحلة جديدة تحدث في البلد، لكن يجب أيضاً تقدير أن تطبيق القرار 1701 يتم من جانب واحد، ولبنان ملتزم بتطبيقه ويريد إكمال التزامه، في إشارة إلى أن الجانب الإسرائيلي هو الذي يخرق الاتفاق الذي أنهى حرب 2006 بين حزب الله وإسرائيل، وأعيد إحياؤه مجدداً لإنهاء الحرب الأخيرة في أكتوبر 2024.
أكد وزير المالية أنه لا يمكن حالياً تحديد موعد تقريبي لبدء حصول المودعين (اللبنانيين وغير اللبنانيين) على ودائعهم، مشيراً إلى ضرورة اتخاذ سلسلة من الإجراءات، قبل ذلك، وأولها كان تعيين حاكم لمصرف لبنان المركزي، وإقرار مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف وإعادة تنظيمها، وبعد أسابيع هناك تعيينات لنواب حاكم مصرف لبنان الذين تنتهي فترة خدمتهم، وأيضاً مجلس إدارة المصرف المركزي، ولجنة الرقابة على المصارف.
وأشار إلى تعيينات جديدة في هذه المواقع، والأمور تسير بالتوازي: قانون جديد، حاكم، نواب حاكم، لجنة رقابة، تدقيق في المصارف، تدقيق في البنك المركزي، وفي الأسابيع المقبلة ستحدث تغييرات كثيرة للأفضل. وأضاف: أعتقد أن الأمور تسير حالياً في الاتجاه الصحيح، وإن شاء الله، عندما تكتمل هذه الأمور وتوضع الخطة ستكون هناك مراحل، المرحلة الأولى تتعلق بأول مجموعة من المودعين والتي تشكل 84 في المئة منهم، وهم صغار المودعين بشكل أساسي. وأشار إلى أن هؤلاء المودعين الذين لديهم ودائع 100 ألف دولار وما دون يشكلون 84 في المئة من نسبة المودعين، وقيمة أموالهم تُقدّر بنحو 18 إلى 19 مليار دولار.
وعن طريقة رد أموالهم، قال الوزير: ستكون هناك مساهمات من مصرف لبنان والمصارف، والحكومة ستقدم نوعاً من الكفالات والدعم وغيره، هناك هندسة معينة لهذا الموضوع سيتم تطبيقها، وهناك تعاون أيضاً مع صندوق النقد الدولي لأجل أن يكون هناك برنامج في القريب العاجل معه.
وأعرب جابر عن ثقته باستمرار الاستقرار النقدي وبتحسن الوضع الاقتصادي مع مرور الوقت وتعزيز الثقة بلبنان، وكلما كان هناك فائض أكبر في ميزان المدفوعات وكلما توافرت للبلاد عملة صعبة، استطاعت تحرير سعر العملة، لأنه عندما توجد وفرة في العرض، فإنه بالاستطاعة تلبية الطلب. وعملياً، إن شاء الله، مع مزيد من الاستقرار والإصلاحات وبناء الثقة، سيتم إنشاء منصة حية متحركة للعملة، تواكب أسعار الصرف يومياً، بالتعاون مع (بلومبرغ).
وعن سعر صرف العملة مقابل الدولار، قال الوزير: تتم السيطرة على الأسعار بطريقة تجفيف السيولة بالليرة اللبنانية، ما جعل أسعار الصرف تستطيع أن تبقى ثابتة، لأنه لا توجد ليرة للمضاربة، والبنك المركزي لا يشتري الدولار بل يبيع الليرة (العملة اللبنانية) لأن هناك نقصاً في الليرة. وأضاف: إذا استطعنا أن نستأنف التصدير لدول الخليج، لأنه حالياً الصادرات اللبنانية للسعودية متوقفة، فهذا بدوره من شأنه أن يدرّ عملة صعبة للبنان، وعودة السياح الخليجيين لزيارة لبنان، تأتي أيضاً بالعملة الصعبة.
وتحدث وزير المالية عن قرب تطبيق قانون زراعة القنب للاستعمالات الطبية والصناعية، فهناك مميزات تفضيلية لزراعة القنب، وهناك أصناف منه تُستخدم للطب، وأصناف أخرى تستعمل للصناعة تخرج منه ألياف أفضل من البولستر بكثير، فالمناخ لدينا جيد، وهناك بعض المزارعين يستغلون زراعة القنب للتهريب بسبب فقرهم.
وأضاف: القانون موجود، وأنا كنت رئيساً للجنة صياغته، ونحن نحتاج لتعيين مجلس إدارة هيئة تنظيم زراعة القنب للاستعمالات الطبية والصناعية لأجل بدء تطبيق هذا القانون. وتابع: يوجد من القنب نوع يمكن استخدامه في العديد من الصناعات، وجاء وفد صيني زائر للبنان والتقيتُ مع أعضائه، وعرض لنا مجموعة من المنسوجات المصنعة من القنب أفضل من البولستر ويمكن استخدامه في هذه الصناعة.
وأشار إلى وضع خطة للتعيين في المناصب الشاغرة وقمنا بتحديد آلية شفافة لأجل قبول طلبات المرشحين لملء هذه المراكز القيادية ممن لديهم الكفاءات وتاريخ من النزاهة، لقد بدأ هذا المشوار، وحالياً أُعلن عن ترشيحات لمجلس الإنماء والإعمار بوزارة التنمية الإدارية حيث تقدّم 650 مرشحا لـ 8 وظائف في خلال 9 أيام فقط، وسيتم إجراء مقابلات لهم من أجل اختيار الأكفأ والأنسب.
وأوضح أن الأمر لا يتعلق فقط بالتعيينات، وإنما بمنظومة كاملة من الإجراءات، ضارباً مثالاً بقطاع الكهرباء الذي أعرب عن ثقته بأنه سيتحسن كثيراً مع مرور الوقت، ومؤكداً أن هناك الكثير من القوانين الإصلاحية التي سيتم تطبيقها على أرض الواقع.
وقلّل وزير المالية من أي آثار أو تداعيات سلبية للجوء إلى التصويت في مجلس الوزراء، خاصة بعد ما جرى أخيراً حسم منصب حاكم مصرف لبنان بالتصويت، قائلاً: الدستور ينص على التصويت إذا تعذر التوافق داخل الحكومة.. وذات مرة كان هناك خلاف على موضوع الزواج المدني الاختياري، وصوت الوزراء وخسر المؤيدون للقانون.
0 تعليق