في تطور جديد ومثير يعكس التناقضات العميقة في السياسة الأمنية الجزائرية، كشف معهد الأفق الجيوسياسي عن خبايا تحقيق عسكري غير مسبوق في الجزائر يطال ضابطين رفيعي المستوى، على خلفية إسقاط طائرة مسيرة مالية فوق منطقة تنزواتين الحدودية، وهو الحادث الذي بات اليوم يشكل أكثر من مجرد سوء تقدير عسكري أو تجاوز للبروتوكولات القيادية.
ووصف التحقيق الذي طال اللواء محمد رمدانية، المسؤول عن مراقبة العمليات الجوية بالمنطقة العسكرية السادسة، وضابطا آخر برتبة عقيد، بأنه يتعلق بعدم الالتزام بالتسلسل القيادي وإطلاق النار من دون إذن من رئيس الأركان سعيد شنقريحة، غير أن الروايات القادمة من مصادر قريبة من دوائر القرار العسكري ترسم صورة أكثر تعقيدا، حيث يقال إن الضابطين لا يعدوان أن يكونا كبش فداء لعملية تحمل أبعادا استراتيجية وأمنية حساسة، تتعلق أساسا بحماية إياد أغ غالي أحد أبرز الإرهابيين المطلوبين في منطقة الساحل.
وتشير المعطيات التي نقلها معهد الأفق الجيوسياسي إلى أن الحادث لم يكن سوى تنفيذ لأوامر صدرت من مستوى عال، وبشكل أدق من المديرية العامة للتوثيق والأمن الخارجي، حيث ذكرت التقارير أن الجنرال رشدي فتحي موساوي، المدير العام للجهاز، أعطى تعليماته بشكل مباشر لإسقاط الطائرة المالية، بعدما تلقت المديرية إخبارية مستعجلة من أحد عملائها في مالي تفيد بأن الجيش المالي يوشك على تنفيذ عملية تصفية ضد أغ غالي.
ولم تسقط الطائرة التي كانت تستعد لرصد موقع الرجل المطلوب وتصفيته اعتباطا، بل وفق عملية محسوبة لتفادي كشف تواطؤ مزعوم داخل المؤسسة العسكرية الجزائرية مع زعيم جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، حيث عمد العسكر الجزائري إلى تحميل الضابطين مسؤولية القرار لإبعاد الشبهة عن الأجهزة العليا، وهو ما يقرأ كإجراء دفاعي لاحتواء التداعيات الدبلوماسية الخطيرة للحادث.
ورغم ماضيه الجهادي وعلاقته بتنظيمات مرتبطة بالقاعدة، فإن أغ غالي لا يزال ينظر إليه داخل أجنحة في السلطة الجزائرية باعتباره ورقة تفاوضية مفيدة، حيث تربط الرجل الذي ظهر في التسعينيات كوجه بارز في حركات التمرد الطوارقية، علاقات قديمة بالاستخبارات الجزائرية، التي سعت آنذاك لاستخدامه لاحتواء فوضى الشمال المالي.
ولم يقطع تحول أغ غالي لاحقا إلى رمز من رموز التطرف المسلح شمال مالي علاقاته مع الاستخبارات الجزائرية، بل رسخها ضمن علاقة تقوم على المصالح الأمنية المتبادلة، حيث أورد باحثون دوليون، ومنهم الفرنسي جان-بيير فيليو، معطيات تؤكد أن بعض دوائر القرار في الجزائر فضلت الإبقاء على قنوات الاتصال مع أغ غالي بهدف مواجهة تمدد الجماعات الإرهابية الأخرى، ومنع ارتدادات عدم الاستقرار على جنوب البلاد.
غير أن تلك الاستراتيجية باتت اليوم على المحك، خصوصا مع تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية، وبدء دول تحالف الساحل، وعلى رأسها مالي، في إعادة تشكيل تحالفاتها الأمنية بعيدا عن الجزائر، حيث كان قرار مالي بفتح تحقيق قضائي يتهم الجزائر بشكل مباشر برعاية الإرهاب، وسحبها لسفيرها من الجزائر، بالإضافة إلى انسحابها من "لجنة الأركان العملياتية المشتركة"، مؤشرات على أزمة ثقة حادة وقطيعة تزداد عمقا.
ولعل أبرز ما يثير القلق لدى صناع القرار في الجزائر هو أن هذه التطورات تترافق مع توسع النفوذ الروسي والتركي في المنطقة، حيث حصلت مالي على طائرات مسيّرة حديثة من طراز "بيرقدار أقنجي"، ما يمنحها قدرة أكبر على رصد التحركات العابرة للحدود، وبالتالي على تحدي النفوذ الجزائري التقليدي.
وفي خضم هذا المشهد، تبدو الجزائر وكأنها تخسر أحد أوراقها الإقليمية، وتجد نفسها مضطرة لتبرير تصرفات باتت تصنف ضمن خانة التواطؤ مع الإرهاب، وهي تهمة كانت تحتكر توجيهها للآخرين، أما إياد أغ غالي، فرغم أنه لا يزال يحظى بحماية مفترضة، فإن معطيات الميدان لم تعد تصب في صالحه، لا سيما بعد أن أعلنت مالي تنفيذ ضربات ضد "أهداف إرهابية" في منطقة تنزواتين، ما يشير إلى تصعيد قادم قد يطيح بالتحالفات الرمادية التي لطالما طغت على المشهد الأمني في الساحل.
ولم يكن ما حدث مع الطائرة المسيرة المالية مجرد حادث عرضي، بل مرآة تعكس عمق الإرباك في الاستراتيجية الجزائرية تجاه منطقة شديدة الاضطراب، حيث وفيما يستمر القضاء العسكري في الجزائر في مساره ضد الضابطين، تظل الأسئلة الكبرى معلقة حول الواقفين وراء الحماية التي يتمتع بها إياد أغ غالي، وهدى استعداد الجزائر لدفع ثمن سياسة ظلت لعقود تدار في الظل.
0 تعليق