من خلال القصف المكثف لقطاع غزة منذ ١٨ مارس، على الرغم من وقف إطلاق النار، أظهرت الحكومة الإسرائيلية استعدادها لمواصلة الأعمال العدائية والاعتماد على الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب لتعزيز ميزتها بناء على دعم غير مسبوق، حسبما ذكرت صحيفة "لوموند" فى افتتاحيتها الدالة منذ يومين.
وأضافت لوموند: بقصف غزة مرة أخرى، أنهت إسرائيل هدنة استمرت شهرين سمحت بعودة مئات الآلاف من سكان غزة إلى القطاع المدمر، ورفعت الحواجز مؤقتاً أمام المساعدات الإنسانية، وأدت إلى إطلاق سراح ٢٥ من الرهائن لدى حماس، وإطلاق سراح ما يقرب من ٢٠٠٠ أسير فلسطيني من السجون الإسرائيلية. واستهدفت الغارات الأخيرة كبار مسئولي حماس ومسئولي الأمن في ليالى رمضان بينما كان بعضهم على ما يبدو مع عائلاتهم في مناطق مكتظة بالسكان، فطالت الغارات العديد من المدنيين.
وأعلنت الحكومة الإسرائيلية أنها أمرت بتنفيذ هذه الهجمات بعد إبلاغ واشنطن، وأكد البيت الأبيض ذلك معلناً ببساطة أنه "أحيط علماً". ويسعى رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو للضغط على حركة حماس، بل وعلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي دفعه إلى التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع الحركة الإسلامية في يناير الماضي.
إن هذه الغارات القاتلة التي أعلن نتنياهو أنها "مجرد البداية"، غير مبررة. وزعم دونالد ترامب أنه نجح في جلب السلام إلى غزة، لكنه فشل حتى الآن بشكل مأساوي.. لقد جعل ترامب من إطلاق سراح الرهائن الذين لا يزالون محتجزين في غزة مسألة شخصية. وأرسل الرئيس الأمريكي مبعوثيه إلى قطر للتفاوض مع ممثلي حركة حماس، بادئا بذلك حواراً مباشراً مع الحركة المصنفة "إرهابية" للمرة الأولى. لقد تحدى ترامب نفسه الزعماء الإسلاميين على شبكته، "تروث سوشيال"، وعبر عن آراء متباينة: فقد عدل عن دعوته إلى التطهير العرقي الصريح في غزة، وأكد أنه لن يتم إجبار أي شخص على المغادرة؛ ثم توعد بفتح "أبواب الجحيم" إذا لم تفرج حماس عن رهائنها.
بالنسبة لقسم كبير من اليمين الإسرائيلي الحاكم، فإن ولاية ترامب الثانية تشكل هبة من السماء. إنه يرى في هذا فرصة لتوسيع حدود إسرائيل الكبرى أكثر من أي وقت مضى منذ إنشاء الدولة في عام ١٩٤٨. وهذا اليمين المتطرف لا يمكن التنبؤ بتصرفاته. ولا تزال الحكومة الإسرائيلية تترقب أن يفرض عليها "صفقة" في غزة، فاليمين المتطرف يعمل على توجيه الحكومة نحو طريقها فى العودة إلى غزة.
وتستمر إسرائيل في الادعاء بأنها تجري مفاوضات، ولكن دون احترام وقف إطلاق النار. ومن خلال زيادة تهديداتها وتشديد قبضتها على غزة، تعمل إسرائيل على زيادة ضغوطها على حماس لاستئناف المفاوضات بشروطها. وفي أوائل شهر مارس، تخلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن إطار اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في ١٩ يناير، لصالح نسخة جديدة تفاوض عليها المبعوث الخاص للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف.
وقد رفضت حماس المقترحات الأمريكية التى كان من شأنها أن تسمح بتمديد التهدئة. وهذا صحيح، ولكن الدولة العبرية هي التي تراجعت، برفضها في بداية شهر مارس الانتقال إلى مرحلة جديدة من اتفاق وقف إطلاق النار وسحب قواتها من غزة بشكل كامل. ثم تراجعت مرة أخرى عن التزاماتها بوصول المساعدات الإنسانية، وتم حظرها من جديد منذ الرابع من مارس.
وتواجه هذه العودة إلى الحرب انتقادات شديدة في إسرائيل. ومنذ يوم الثلاثاء، اتهمت عائلات الرهائن الحكومة بالتوقيع على أوامر الإعدام بحق أحبائهم. وتتهم المعارضة بنيامين نتنياهو بإطالة أمد الحرب من أجل البقاء في السلطة. في الواقع، فإن استئناف الأعمال العدائية يجعلنا نتذكر فى الخلفية الدعوات لتشكيل لجنة تحقيق في الانهيار الأمني الذي حدث في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، وكذلك الدعوات المؤيدة لإجراء انتخابات.
وبالتالي، فإن رئيس الوزراء يمنح نفسه مجالا أكبر للمناورة. وأعلن حليفه المتطرف إيتمار بن جفير انضمامه إلى الحكومة التي تركها في بداية الهدنة.
انهيار كامل
فى سياق متصل، يقول مراسل لوموند فى القدس صموئيل فوري: لا يبدو أن هناك من يستطيع منع وقف الأعمال العدائية ضد السكان فى قطاع غزة، في حين أصبح واضحاً أن وقف إطلاق النار قد انهار بشكل نهائي.. ويضيف: قوات الاحتلال تتقدم باتجاه الأراضي الفلسطينية في قطاع غزة. وتم وضع لواء المشاة، الجولاني، في حالة تأهب للحرب على حدود الجيب الفلسطيني. وفي حين يزعم الجيش أنه لا يزال يمنح نفسه فرصاً للخروج من الصراع، فإن هذه الفرص تبدو وكأنها تتضاءل أكثر فأكثر. إن معدات الحرب في الحركة ويبدو من المستحيل إيقافها بالفعل.
بعد الهجوم الجوي يوم الثلاثاء، بدأ الهجوم البري. وأطلقت القوات الإسرائيلية "عمليات برية مستهدفة" في القطاع "لتوسيع المنطقة الأمنية وإنشاء منطقة عازلة جزئية بين شمال وجنوب غزة، حتى مركز ممر نتساريم"، حسبما قال المتحدث باسم الجيش في بيان.
ممر نتساريم، الذي سمي على اسم مستوطنة يهودية سابقة تم تفكيكها في عام ٢٠٠٥، هو شريط من الأرض اقتطعته القوات الإسرائيلية أثناء الصراع، ويبلغ عرضه ستة كيلومترات، ويقطع قطاع غزة إلى نصفين، حيث يعزل شمال القطاع عن جنوبه. وتم الإجلاء منه في فبراير، بعد ثلاثة أسابيع من بدء وقف إطلاق النار، كجزء من الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين إسرائيل وحماس. ثم أعاد جيش الاحتلال الإسرائيلي، الأربعاء الماضى، احتلال جزء منه يمثل نقطة استراتيجية جنوب مدينة غزة.
وقامت قوات الاحتلال بإغلاق ممر صلاح الدين، وهو المحور الرئيسي للقطاع الفلسطيني. ويتحكم بحركة المرور على المحور الآخر الذي يخترق غزة، وهو طريق الرشيد، الممتد على طول البحر. ويسمح فقط بحركة السكان من الشمال إلى الجنوب، لتعود الأمور كما كانت عندما أصدرت الدولة العبرية أمر الإخلاء في أكتوبر ٢٠٢٣، مما تسبب في نزوح قسري لنحو مليون فلسطينى، لتبدأ من جديد حركة نزوح جديدة فى شهر الصوم المقدس.
ويعتبر استئناف الأعمال العدائية بمثابة التخلي عن الرهائن، بحسب الحركة الداعمة للرهائن الإسرائيليين. وأصدر حزب زعيم المعارضة يائير لابيد، "يش عتيد"، بياناً اتهم فيه رئيس الوزراء "بنشر مؤامرات خطيرة، وتقويض سيادة القانون، وإلحاق الضرر بسمعة إسرائيل"، فى حين يظل نتنياهو متمسكاً بقوة بالسلطة.
ومن خلال إنهاء وقف إطلاق النار، يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى كسب الوقت في محاكمته بتهم الفساد، وإعادة حزب يميني متطرف إلى الحكومة، وهو ما قد يساعده في تمرير التصويت على الميزانية في الكنيست.
وبحسب الصحافة الإسرائيلية، يعتزم الجيش الآن استهداف القدرات المدنية والعسكرية للحركة الإسلامية، مع فتح فرص استئناف المفاوضات في ظل الشروط التي تفرضها إسرائيل، وأهم هذه الشروط: لا التزام بإنهاء الحرب، ولا انسحاب كاملا للجيش.
استعادة السيطرة
لذا، من الممكن اعتبار الهدنة منتهكة، خاصةً بعد أوامر الإخلاء التي أصدرها الجيش الإسرائيلي، والتي تجبر السكان الفلسطينيين على مغادرة المناطق الحدودية مع غزة، والبدء فى شن هجوم بري محدود حتى الآن، لكن هذا الهجوم يجعل مايكل ميلستين، ضابط الاستخبارات الإسرائيلي السابق، حذراً حيث يقول "أنا لا أفهم هذه الاستراتيجية. ولتحرير الرهائن، نحن نعلم أن الضغط العسكري غير فعال، بل وحتى غير منتج.. لقد عدنا إلى الوضع الذي كنا عليه قبل ثلاثة أشهر، قبل وقف إطلاق النار".
كما أن هذا الهجوم الجديد سمح لبنيامين نتنياهو المحاصر باستعادة السيطرة السياسية. أولا، من خلال إلغاء جلسة الاستماع التى كانت مقررة يوم الثلاثاء في محاكمته بتهم الفساد. لكن الأهم من ذلك كله هو تعزيز عودة إيتمار بن جفير، وزير الأمن القومي السابق، الذي انسحب من الحكومة احتجاجاً على وقف إطلاق النار. ويعود إلى منصبه برفقة أربعة نواب من حزبه "القوة اليهودية"
وستكون هذه الأمور أساسية لإقرار ميزانية عام ٢٠٢٥. في السادس من مارس، أعلن ثلاثة نواب من حزب أرثوذكسي متشدد، وهو عضو في الائتلاف، أنهم سيصوتون ضد الميزانية إذا لم يُعتمد قانون يوضح إعفاء الرجال من طائفتهم من الخدمة العسكرية. وكانت الأغلبية البرلمانية هشة للغاية في هذه الانتخابات الصعبة، التي يعتمد عليها بقاء الحكومة. لكن استطلاعات الرأي لا تصب في صالح الأغلبية الحالية.
ومن خلال العودة تدريجيا إلى الحرب واستعادة السيطرة السياسية، يكتسب رئيس الوزراء الوقت. لكن الثقة الإسرائيلية تتآكل. فى منتصف أكتوبر ٢٠٢٣، كان ٩٢٪ من الإسرائيليين اليهود يعتقدون أن جيشهم سيفوز في الحرب، وفقاً لدراسة أجراها المعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية، وهو مركز أبحاث مقره تل أبيب. وبحلول بداية عام ٢٠٢٤، وصلت النسبة إلى ٧٨٪. والآن أصبحوا ٦٦٪.
العدوان الغادر يتواصل على القطاع المدمر.. حرب دائمة وقاتلة.. اليمين الحاكم يرى فى ولاية ترامب الثانية هبة من السماء.. وفرصة لتوسيع حدود إسرائيل الكبرى

العدوان الغادر يتواصل على القطاع المدمر.. حرب دائمة وقاتلة.. اليمين الحاكم يرى فى ولاية ترامب الثانية هبة من السماء.. وفرصة لتوسيع حدود إسرائيل الكبرى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
0 تعليق