ترامب يهدد “الهيبة الاستثنائية” للاقتصاد الأمريكي 

البورصة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أمام مجموعة من كبار المديرين التنفيذيين يوم الثلاثاء الماضي، عن “روح جديدة” تجتاح عالم الشركات الأمريكية، إذ ضخت الشركات مئات مليارات الدولارات في الاستثمارات.

وقال ترامب خلال اجتماع “الطاولة المستديرة للأعمال” إن “الرسوم الجمركية تؤثر إيجابياً بشكل هائل”.

لكن في الوقت نفسه، كانت الأسواق المالية ترسل إشارات مغايرة، إذ أغلق مؤشر “إس آند بي 500” على انخفاض بنسبة 0.8% في ذلك اليوم، واستمر في التراجع خلال الأيام التالية قبل أن يشهد بعض التعافي يوم الجمعة، ومنذ بداية عام 2025، خسر المؤشر 4% من قيمته.

جاء هذا التراجع وسط مخاوف بشأن سياسات البيت الأبيض التجارية غير المتوقعة والمتقلبة، والتي أثارت حالة من القلق لدى المستثمرين، فضلاً عن القلق المتزايد من أن إعادة هيكلة مؤسسات الحكومة الفيدرالية قد تؤثر سلباً على النمو الاقتصادي.

قبل أشهر قليلة فقط، كان المزاج السائد مختلفاً تماماً، إذ كانت هناك قناعة واسعة بين كبار المسؤولين التنفيذيين بأن خفض الضرائب وتخفيف القيود التنظيمية سيعزز نشاط الأسواق، ويدفع الشركات إلى الاستثمار والتوسع.

في يناير الماضي، خلال اجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا، ساد شعور بأن أمريكا تتفوق على أوروبا التي تعاني من الجمود الاقتصادي، وعلى الصين التي تواجه تباطؤاً.

لكن هذا التفاؤل تبدد سريعاً بفعل الأسابيع الأولى من ولاية ترامب الجديدة، إذ تسببت تقلبات السياسة التجارية، بما في ذلك فرض رسوم جمركية ثم التراجع عنها، في إثارة حالة من عدم اليقين لدى الشركات، مما دفع بعض الخبراء إلى التحذير من ركود اقتصادي.

ما يجعل هذا التباطؤ الاقتصادي مثيراً للاهتمام هو أنه نتيجة لسياسات الإدارة الأمريكية نفسها، وليس بسبب صدمات خارجية مثل ارتفاع أسعار الطاقة أو الأوبئة أو الأزمات المصرفية، حسب ما ذكرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.

كان ترامب واضحاً خلال حملته الانتخابية بشأن نيته تصعيد الحروب التجارية التي بدأها في ولايته الأولى، لكن سياساته جاءت أكثر عدوانية مما توقعه معظم المحللين.

فخلال الشهرين الأولين من ولايته الجديدة، فرض ترامب رسوماً جمركية مشددة على أهم ثلاثة شركاء تجاريين للولايات المتحدة: كندا، والمكسيك، والصين.

وقد أوقعت هذه الإجراءات ، المستثمرين في حيرة، إذ زادت التعريفات الجمركية على الواردات من 380 مليار دولار في 2018-2019 إلى تريليون دولار حالياً، ومن المتوقع أن تصل إلى 1.4 تريليون دولار بحلول أبريل.

وتعاني الشركات من نقص الوضوح بشأن أهداف هذه الرسوم، فهل الغرض منها زيادة الإيرادات الفيدرالية، أم إعادة توطين الصناعات داخل أميركا، أم الحد من تهريب المخدرات والهجرة غير الشرعية؟

هذا الغموض يجعل من الصعب على الشركات التخطيط للمستقبل.

نتيجة لذلك، يتزايد عدم اليقين في الأوساط التجارية، وتؤجل الشركات قرارات الاستثمار، مما يضر بالنمو.

وبحسب مؤشر لقياس حالة عدم اليقين في السياسات الاقتصادية بين الشركات الصغيرة، فإن عدم اليقين بلغ مستويات قياسية غير مسبوقة.

كما أن الشركات الأمريكية التي تعتمد على استيراد السلع الوسيطة ستواجه ارتفاعًا في التكاليف، بينما قد يجد المستهلكون الأمريكيون أنفسهم مضطرين لتقليل إنفاقهم.

يضاف إلى ذلك الضرر الناجم عن التعريفات الانتقامية التي فرضها الشركاء التجاريون الرئيسيون للولايات المتحدة، مثل الاتحاد الأوروبي وكندا والصين.

وفي ظل هذه الأوضاع، بدأ بعض المستثمرين يرون أن الاقتصاد الأمريكي لم يعد “استثنائيا” كما كان في السابق.

وقد زاد من حالة عدم اليقين الاضطراب الذي أحدثه إيلون ماسك وفريقه في “إدارة الكفاءة الحكومية”، حيث تم تعليق أو إلغاء آلاف الوظائف الحكومية والمشاريع الممولة من الحكومة، مما خلق انقسامات داخل الحزب الجمهوري وأثار غضب شريحة واسعة من الأمريكيين.

وفي خطوة غير مسبوقة، أصدرت محاكم فيدرالية حكماً يجبر الإدارة الأمريكية على إعادة توظيف عشرات الآلاف من الموظفين الحكوميين الذين تم تسريحهم في الأسابيع الأخيرة، مما شكل انتكاسة لجهود ماسك في خفض التكاليف.

هل يمكن تجنب الركود؟

رغم تزايد المخاوف من حدوث ركود اقتصادي، لم يستسلم المحللون بعد.

فبحسب أحدث استطلاع أجرته “كونسنسس إيكونوميكس”، لا يزال معدل النمو المتوقع لعام 2025 عند 2%، وهو أقل من 2.2% في الشهر الماضي، وتوقعات صندوق النقد الدولي البالغة 2.7% الصادرة في يناير، لكنه يظل أعلى من توقعات الصندوق البالغة 1% لمنطقة اليورو.

كما يشير مؤشر مجلس الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا إلى انكماش اقتصادي في الربع الأول من العام، لكن هذا قد يكون ناتجاً عن اضطرابات تجارية مؤقتة ناجمة عن تدفقات الذهب الضخمة إلى الولايات المتحدة.

من جانبه، حاول وزير الخزانة الأمريكي، سكوت بيسنت، التقليل من تأثير تذبذب الأسواق، قائلاً إن “تباطؤ النمو جزء من فترة تطهير ضرورية لإعادة التوازن للاقتصاد وتقليل الاعتماد على الإنفاق الحكومي”.

لكن بعض المستثمرين لا يزالون يعطون الإدارة الأمريكية فرصة.

يقول رئيس قسم الأسهم في شركة “نيوبيرجر بيرمان” لإدارة الأصول، جوزيف أوماتو : “على المدى الطويل، ستكون الولايات المتحدة في وضع أفضل”، لكنه يعترف بأن سياسات ترامب التجارية أربكت الأسواق.

من جانبهم، يقلل كبار المسئولين التنفيذيين في الشركات الأمريكية من احتمال أن تؤدي التعريفات الجمركية إلى زيادة الإنتاج داخل الولايات المتحدة.

فعلى سبيل المثال، تقول شركة “ماتيل” لصناعة الألعاب، ومقرها كاليفورنيا، إنها لا ترى أي فائدة اقتصادية من تصنيع منتجاتها محلياً، رغم محاولاتها تنويع مصادر الإنتاج على مدى السنوات الست الماضية.

بدأت المخاوف بشأن ارتفاع الأسعار نتيجة الزيادات في الرسوم الجمركية تؤثر بشكل واضح على ثقة المستهلكين.

فقد تراجع مؤشر “جامعة ميشيجان” لثقة المستهلكين بنسبة 11% في مارس، ليصل إلى 57.9 نقطة، وهو انخفاض أكبر مما توقعه الاقتصاديون، كما أنه فقد كافة المكاسب التي سجلها عقب فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر.

وأوضح الباحثون أن “العديد من المستهلكين أشاروا إلى ارتفاع حالة عدم اليقين حول السياسات الاقتصادية وعوامل أخرى”.

من جانبها، صرحت إيريكا يورك، نائبة رئيس قسم السياسات الضريبية الفيدرالية في “مؤسسة الضرائب”، بأن غياب استراتيجية واضحة بشأن توسع الحرب التجارية التي يقودها ترامب يلقي بظلاله على الاقتصاد الأمريكي.

وقالت: “نسمع أهدافًا متضاربة من إدارة ترامب بشكل شبه يومي”.

يبرر ترامب الرسوم الجمركية التي فرضها على المنتجات الكندية والمكسيكية بأنها ضرورية للضغط من أجل اتخاذ إجراءات صارمة ضد تهريب “الفنتانيل” والهجرة غير الشرعية.

لكنه في الوقت نفسه، يسعى إلى دفع الصناعات، مثل صناعة السيارات، إلى إعادة التوطين داخل الولايات المتحدة، بالإضافة إلى جمع إيرادات ضخمة لتعويض آثار تمديد التخفيضات الضريبية.

وتقدر يورك أن هذه الضرائب، عند الأخذ في الاعتبار إجراءات الانتقام من قبل الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، ستؤدي إلى خفض الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بنسبة 1% مقارنة بالتوقعات السابقة، وهو ما يكفي لمحو أي تأثير إيجابي كان يمكن أن تحققه التخفيضات الضريبية التي أقرها ترامب في ولايته الأولى.

وسط احتمالات استمرار الفوضى الاقتصادية، يراهن المستثمرون على أن الولايات المتحدة، التي قدمت قصة نجاح اقتصادي بارزة في السنوات الأخيرة، قد بدأت تفقد بعضًا من بريقها الذي سحر المشاركين في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس خلال يناير الماضي.

يقول دافيد سيرا، الرئيس التنفيذي لشركة “ألجبرس إنفستمنتس”: “لطالما كانت التوقعات في دافوس خاطئة، لكن هذا العام لم أرَ الأمريكيين بهذا القدر من الارتباك. كان الأمر أشبه بحالة هلوسة جماعية”.

تغير التوقعات بشأن الاقتصاد الأمريكي أعاد اهتمام المستثمرين بالأسواق الأوروبية، حيث يعتقد البعض أن سياسات ترامب المتقلبة قد تدفع الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ إجراءات حاسمة.

وأشار بعض المحللين إلى التحول المفاجئ في ألمانيا نحو الاستثمار الممول بالعجز في قطاعات الدفاع والبنية التحتية، معربين عن أملهم في أن يستجيب الاتحاد الأوروبي بتسريع عملية توحيد أسواق رأس المال، وهو هدف طال انتظاره.

يقول جوزيف أوماتو، المسؤول التنفيذي في شركة “نيوبيرجر بيرمان”: “بعض المبادرات التي تتخذها الإدارة الأمريكية قد تدفع أوروبا أخيرًا إلى تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي طالما تحدثت عنها دون تطبيق.. هناك إدراك متزايد بأن على أوروبا أن تدفع عجلة النمو وتزيد من استثماراتها في قطاع الدفاع”.

في الوقت نفسه، أثارت التطورات الأخيرة في الصين تساؤلات حول التفوق التكنولوجي الأمريكي.

فقد أطلقت شركة “ديب سيك” الصينية الناشئة نموذج ذكاء اصطناعي جديدًا يُضاهي في أدائه أفضل النماذج التي طورتها شركات أمريكية مثل “أوبن إيه آي” و”أنثروبيك” و”ميتا بلاتفورمز”، لكن بتكلفة أقل بكثير وباستخدام رقائق إلكترونية أقل تقدمًا.

هذا الإنجاز الصيني أثار قلق المستثمرين، حيث تراجعت أسهم كبرى شركات التكنولوجيا الأمريكية، كما أن الصين تخطط لإطلاق مجموعات من الأقمار الصناعية قد تمثل تحديًا لنظام “ستارلينك” التابع لماسك.

يقول فينسنت مورتييه، كبير مسئولي الاستثمار في شركة “أموندي”، أكبر مدير للأصول في أوروبا: “الناس بدأوا يدركون أن الاستثنائية الأمريكية قد لا تكون استثنائية كما كانوا يعتقدون… إنه جرس إنذار”.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق