نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
من المخيمات إلى الحزب: هل دخل لبنان عمليًا مرحلة "سحب السلاح"؟, اليوم السبت 23 أغسطس 2025 04:09 صباحاً
"حصر السلاح بيد الدولة". قد تكون هذه العبارة هي عنوان المرحلة بامتياز، فلا نقاش يعلو على هذا البند الذي ورد في خطاب القسم الذي أدلى به رئيس الجمهورية جوزاف عون في مجلس النواب مطلع العام الحالي، وتكرّر في البيان الوزاري لحكومة نواف سلام الأولى، ويردّده الرجلان في كلّ مناسبة، وربما من دون مناسبة حتّى، والذي لا يخفى على أحد أيضًا أنّه أضحى مطلبًا دوليًا، يكرّره الموفدون الغربيّون الذين يحجّون إلى لبنان بين الفينة والأخرى.
لكن، على الرغم من كلّ هذا التكرار، لم يكن أحد يتوقّع خطوات "عملية" ملموسة، سواء على مستوى السلاح الفلسطيني داخل المخيّمات، أو على مستوى سلاح "حزب الله"، على الرغم من القرارات التي اتخّذتها الحكومة في جلستي الخامس والسابع من آب الشهيرتين، واحتجّ عليها "الثنائي الشيعي" علنًا، وإن لم يرقَ موقفه إلى حدّ إعلان "المعارضة" للحكومة، أو الاستقالة من صفوفها، أو حتى الاعتكاف، كما فعل في محطّات تاريخية سابقة.
من هنا، ثمّة من يرى أنّ ما جرى عصر الخميس، من تسليم لأول دفعة من السلاح الفلسطيني، قد يكون "خطوة أولى" في هذا المسار، مع ما ينطوي عليه من رمزية استثنائية في تاريخ الصراع، ولو أنّ المشهد بقي "معزولاً" إلى حدّ بعيد، في ظلّ روايات متداولة قلّلت من شأن الخطوة، التي بقيت محصورة بحركة "فتح" دون غيرها من الفصائل الفلسطينية، التي على النقيض، اختارت أن تصدر بيانًا تتحفّظ فيه على ما جرى.
ومع ذلك، هناك من يعتقد أنّ هذه الخطوة تكرّس في مكانٍ ما سياقًا متغيّرًا سيفرض نفسه على الأرض، وهو الذي نتج عن التغييرات الجوهرية التي فرضتها معركة "طوفان الأقصى" على مستوى الإقليم، في ضوء الترتيبات التي تكثّفت في الأيام الأخيرة لما بات يصطلح على تسميته بـ"اليوم التالي". فهل يمكن القول إنّ لبنان دخل عمليًا مرحلة "سحب السلاح"، على أنواعه، وأيّ تداعيات لذلك على المشهد العام؟.
بالحديث عن السلاح الفلسطيني بدايةً، يدرك الجميع أنه لطالما شكّل عقدة أمنية وسياسية في لبنان منذ اتفاق القاهرة عام 1969. فقد منح الاتفاق حينها منظمة التحرير حق العمل المسلّح انطلاقًا من المخيمات، ليتحوّل لاحقًا إلى مصدر توتّر داخلي وصراعات دموية. ومع خروج منظمة التحرير من بيروت عام 1982، تراجع دور هذا السلاح، لكنه لم يختفِ؛ إذ بقيت الفصائل تحتفظ بترسانة خفيفة ومتوسطة، فيما تمدّدت بعض الفصائل الأخرى مستفيدة من الانقسام.
وعلى مدى العقود الماضية، شكّل السلاح الفلسطيني ملفًا مؤجّلًا في النقاش اللبناني، إذ كانت القوى السياسية تفضّل إبقاءه "داخل المخيمات" كمسألة ثانوية، مقابل تركيز الصراع الداخلي على سلاح "حزب الله"، وذلك على الرغم من تكرّر الاشتباكات الدموية في المخيمات، خصوصًا في عين الحلوة، الذي تحوّل في مكانٍ ما إلى ملاذ للمطلوبين الهاربين من الدولة. لكن تغيّر موازين القوى بعد الحرب على غزة، وضغط المجتمع الدولي، أعاد ترتيب الأولويات.
صحيح أنّ مشهد تسليم الدفعة الأولى من السلاح الفلسطيني من مخيم برج البراجنة اصطدم بالتشكيك، ومعه بالكثير من التكهّنات عن كون ما جرى مجرّد "تمثيليّة"، باعتبار أنّ السلاح المسلَّم لا يعكس حقيقة ما تمتلكه الفصائل، فضلاً عن أنّ تسليمه جرى طوعًا، باتفاق يبدو أنّه محصور بحركة "فتح"، دون غيرها من الفصائل التي تمتلك الثقل الأكبر من السلاح، ولا سيما الثقيل منه، والذي ألمح بيان الفصائل إلى أنها ليست في وارد تسليمه في المدى المنظور.
ومع ذلك، فإنّ المشهد الذي جاء ثمرة اتفاق بين الدولة اللبنانية والسلطة الفلسطينية، باركه الرئيس محمود عباس خلال زيارته الأخيرة إلى لبنان، وإن جُمّد بعد ذلك لأشهر طويلة، أثار ارتياحًا داخليًا وخارجيًا، عبّر عنه الموفد الأميركي توم براك الذي سارع للتنويه بالخطوة واصفًا إياها بـ"التاريخية". لكن وراء هذا الارتياح، بدأ يلوح سؤال أكبر: هل يشكّل تسليم السلاح الفلسطيني بالون اختبار تمهيدًا لسيناريو مشابه مع سلاح "حزب الله"؟.
الواضح أنّ سلاح الحزب وُضِع على الطاولة للمرة الأولى منذ عقود، بعدما كسرت الحرب الأخيرة على لبنان "الحاجز" الذي كان يمنع أيّ نقاش بشأنه، خصوصًا بعد اغتيال الزعيم التاريخي للحزب وأمينه العام السابق السيد حسن نصر الله، الذي يرى كثيرون أنّ غيابه أضعف "الهيبة التاريخية" التي أحاطت بقيادة الحزب. ورغم مسارعة الحزب إلى تعيين خلف لنصر الله، هو الشيخ نعيم قاسم، فإنّ الأخير لم ينجح حتى الآن في سدّ الفراغ الذي خلّفه الرجل، رغم كل المحاولات التي بذلها.
وبعد جلستي الخامس والسابع من آب، وما نتج عنهما من قرارات حكومية واضحة تقضي بالشروع في "خطة وطنية" لسحب السلاح غير الشرعي على أنواعه، بما يشمل سلاح الحزب نفسه، باتت المعركة السياسية مفتوحة على مصراعيها. بمعنى آخر، لم يعد النقاش افتراضيًا أو محصورًا بالتوصيات الدولية، بل صار ملزِماً بموجب قرار رسمي داخلي، ولو أنّ الحزب ومن خلفه الثنائي الشيعي سارع إلى إعلان رفضه القاطع، معتبرًا أنّ المسّ بسلاح "المقاومة" خط أحمر لن يُسمح بتجاوزه.
بيد أنّ هذا الرفض، الذي اتخذ طابعًا تصعيديًا في البيانات والمواقف، لم يُترجم حتى اللحظة بخطوات ميدانية، كالانسحاب من الحكومة أو تعطيل المؤسسات، بل على العكس، أظهر الحزب حرصًا على البقاء ضمن اللعبة السياسية، وكأنّه يسعى إلى خوض معركة الدفاع عن سلاحه من داخل السلطة لا من خارجها. لكن في موازاة ذلك، يشتدّ الخناق الدولي أكثر من أي وقت مضى. فالموفدون الأميركيون والفرنسيون، وآخرهم براك، لا يكفون عن التذكير بأنّ "حصر السلاح بيد الدولة" لم يعد شعارًا، بل مطلبًا سياسيًا وأمنيًا عاجلاً.
وقد تسرّبت في الكواليس إشارات إلى أنّ أي دعم مالي أو خطة إنقاذ اقتصادية للبنان ستكون مشروطة بتقدّم ملموس في هذا الملف، ما يضع الحكومة أمام تحدٍّ مزدوج: التوفيق بين الضغوط الدولية من جهة، والممانعة الداخلية بقيادة الحزب من جهة أخرى.
على المقلب الآخر، يعيش "حزب الله" حالة استنفار سياسي وإعلامي. فالحزب يدرك أنّ لحظة ما بعد اغتيال نصر الله وما رافقها من تبدّل في التوازنات الداخلية والإقليمية مختلفة تمامًا عمّا سبق. وهو يرى في خطوة المخيمات رسالة مبطّنة، أو ربما "بروفة" لما يمكن أن يُطلَب منه لاحقًا. وهو لذلك ربما لا يغلق باب النقاش كليًا، بدليل إعلانه استعداده للبحث في "استراتيجية دفاعية وطنية". وهذا مؤشر واضح إلى أنّ الحزب يدرك أنّ الضغوط لن تتوقف، وأنّ مسار "سحب السلاح" انطلق فعليًا، حتى لو أنكر ذلك في العلن.
في المحصلة، يمكن القول إنّ لبنان دخل عمليًا مرحلة "سحب السلاح"، ولو بخطوات رمزية أولية. قد يكون مشهد تسليم السلاح الفلسطيني في برج البراجنة بداية الطريق، لكنّ العين تبقى منصبّة على سلاح "حزب الله". وهنا تحديدًا يكمن التحدي الأكبر: فهل ينجح الداخل اللبناني في صياغة معادلة تحفظ توازناته الدقيقة، أم أنّ الحلول ستُفرَض عليه من الخارج، في مشهد يعيد إلى الأذهان لحظة "الطائف"، ولكن في ظروف إقليمية ودولية أكثر تعقيدًا؟.
0 تعليق