بين النفس الأمارة والقلب المطيع

سعورس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
بين النفس الأمارة والقلب المطيع, اليوم الخميس 28 أغسطس 2025 01:22 صباحاً

بين النفس الأمارة والقلب المطيع

نشر بوساطة أسامه بن سرور في الوطن يوم 27 - 08 - 2025

1169147
منذ أن وُجد الإنسان على هذه الأرض وهو يعيش صراعًا داخليًا لا يهدأ؛ صراعًا بين نوازع النفس الأمّارة بالسوء، وبين همسات القلب المطيع للحق. هذا الصراع هو جوهر التجربة الإنسانية، ويظهر بأوضح صوره في معركة الإدمان، حيث تتحوّل الرغبة العابرة إلى قيد خانق، ويغدو المرء أسيرًا لما استسلم له.
ويُذكّرنا القرآن بهذا الصراع في آية بليغة:
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}،
لتبيّن أن النفس تحمل بذرة الفجور كما تحمل بذرة التقوى، وأن الإنسان ليس شرًا محضًا ولا خيرًا محضًا، بل في معركة مستمرة يختار فيها أي الكفتين يُرجّح.. وهنا تتجلى خطورة الإدمان، إذ يميل بالإنسان إلى جانب الفجور، حتى يغيب صوت القلب المطيع، فلا يعود يرى إلا الوهم الذي قيد روحه.
الإدمان ليس ضعف إرادة فحسب، ولا خطيئة أخلاقية مجردة؛ إنه اضطراب نفسي وبيولوجي معقّد يعيد تشكيل الدماغ، ويغيّر نظام المكافأة فيه، يبدأ غالبًا بهروب صغير من قلق أو ألم أو فراغ، ثم ينقلب هذا الهروب إلى عادة، فالعادة إلى أسر، حتى يجد الإنسان نفسه يلهث وراء سراب يظنه راحة، بينما هو في الحقيقة فخّ يستنزف روحه وجسده.
ولفهم الإدمان لا بد من رؤية أبعاده المتشابكة: بيولوجية تغيّر كيمياء الدماغ، نفسية تتغذى على القلق والاكتئاب والصدمات، واجتماعية تنمو مع غياب الاحتواء ورفقة السوء، ولهذا فالتعاطي ليس مجرد بحث عن مادة، بل عن مهرب من حياة لم يجد صاحبها فيها مأمنًا ولا سندًا.
أخطر ما في الإدمان أنه يقيد الحرية الداخلية؛ يحرم الإنسان أعظم ما منحه الله: الاختيار، فالعلاج لا يعني التوقف عن التعاطي فقط، بل استعادة القدرة على الاختيار، والعودة لسيادة الذات بعد أن اغتصبتها الرغبات.
وهنا يجب أن يترسخ وعي جديد: المدمن ليس وصمة عار نُلصقها بجبينه، بل إنسان يمر بمرض يحتاج إلى علم ورحمة.. رحمة تعيد له إنسانيته، وتذكّره أنه يستحق حياة أفضل، وعلم يقدّم له برامج علاج دوائيًا ونفسيًا وسلوكيًا تُصلح ما اختلّ في دوائر الدماغ، وتفتح نافذة للأمل.
ومن أنجح هذه البرامج العلاج المعرفي السلوكي، الذي يكشف جذور السلوك، ويعيد تشكيل التفكير، إضافة إلى دعم اجتماعي وأسري يداوي الجرح بدل أن يوسّعه.
لقد أثبتت قصص التعافي أن الإنسان قادر على النهوض من أقسى السقطات إذا وجد من يأخذ بيده.. كثير ممن تعافوا صاروا رسلاً للأمل، يروون أن الهزيمة ليست نهاية المطاف، وأن بين النفس الأمّارة والقلب المطيع دائمًا فسحة أمل يمكن أن تزهر من جديد.
المدمن لا يحتاج إلى حجر جديد نلقيه عليه، بل إلى يد تُمسك به، يحتاج أن نرى إنسانيته قبل خطئه، وأن نعطيه فرصة ثانية بدل أن ندفنه بالوصم، وحين نفعل، نكون نحن أيضًا قد اخترنا أن نصغي لصوت القلب المطيع فينا، ذاك الصوت الذي يذكّرنا بأن الرحمة قوة، وأن المساندة واجب إنساني قبل أن تكون علاجًا نفسيًا.
فالمعركة مع الإدمان ليست معركة فردٍ وحيد، بل معركة مجتمع بأكمله ضد الجهل والخوف والإقصاء، وإن اخترنا أن ننحاز للرحمة والعلم، فقد خطونا نحو مجتمع أكثر وعيًا وعدلًا وإنسانية، فكلما أعطينا إنسانًا فرصة للتعافي، منحتنا الحياة جميعًا فرصة جديدة لنكون أكثر إنصافًا مع ذواتنا ومع الآخرين.




أخبار ذات صلة

0 تعليق