نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الذات الواحدة بين الشعر والنثر, اليوم الثلاثاء 22 أبريل 2025 07:57 مساءً
نشر بوساطة سارة المطيري في الوطن يوم 22 - 04 - 2025
لطالما تساءلتُ: كيف يمكن لذاتٍ واحدة أن تجمع بين الكتابة الشعرية والكتابة النثرية؟ كيف لروحٍ أن تحلّق خارج سرب النمطية فلا تحصر نفسها في قصيدة موزونة مقيدة بالقافية، ولا تنغلق على شكل نثري صرف لا يمنحها اتساعاً في التعبير؟ من يقدر على ذلك، لا أراه مجرد مبدع يُعيد تشكيل صورة مألوفة، بل هو مبدع استثنائي، اختار بوعي أو ربما بالفطرة - أن يُخرج إبداعه من مألوف الإبداع ذاته. وفي أحيان كثيرة، يبدو لي أن الكتابة لا تكفي لتكون شعرًا فقط أو نثرًا فحسب، بل تتطلب دمج الشكلين لتصل إلى أقصى مدى من التأثير، موسعة أفق الفكر، ومحفزة الشعور، ومُعبّرة عن التجربة بتكامل شعري ونثري معًا.
في محاولتي لفهم هذا الدمج، وجدت أنه لا بد من الوقوف على الفروق التي تميز كلًا من هذين الشكلين الأدبيين. الكتابة الشعرية تعتمد على الوزن والقافية، وتُبنى من صور وأخيلة ومحسنات بلاغية، وهي بهذا تخلق تجربة جمالية أو عاطفية يستطعمها القارئ أو تُرويه وجدانيًا، وتتنوع في أشكالها بين القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة. أما الكتابة النثرية، فهي عرضٌ لفكرة أو تأمل أو تجربة، تُبنى على التسلسل المنطقي، وقد تعتمد على التحليل أو الوصف أو التعبير المباشر أو الضمني، ويدخل في إطارها المقال، والرواية، والخاطرة، وغيرها من الأجناس النثرية. ورغم التباين الظاهري، فإن الوقوف طويلًا عند تجارب بعض المبدعين يبيّن أن نقطة التقاء ممكنة بين الاثنين.
وجدتُ أن بعض المبدعين حين يعجزون عن إيصال شعور ما أو فكرةٍ بعينها عبر شكلٍ واحد، يلجؤون بإلهام أو وعي إلى الجمع بين الشعر والنثر، فيأتي النص بأبيات موزونة تعمّق الرؤية، ثم تلحقها مقاطع نثرية توضّح أو تستكمل المعنى، وكأنهما جناحان لذات الطائر. وحين يُحسن الكاتب هذا المزج، لا يُشعر القارئ بأن هناك تنافراً، بل يبدو كل منهما مكملاً للآخر، لا سيما حين يكون غرض الكاتب أعمق من أن يُختزل في شكل أدبي واحد. ولكن هذا الدمج ليس سهلًا دائمًا، بل قد يكون مربكًا لدى المتلقي، خصوصًا إذا لم يكن الكاتب متمكنًا من كلا الشكلين، فيبدو النص متنافرًا، ويخسر كلٌ من الشعر والنثر تميزهما. ولهذا، فإن مرونة الكاتب ووعيه بالشكلين هما الضمانة الحقيقية لنجاح هذا التداخل.
طالما تكررت أمامي فكرة أن كاتب النثر قد لا يُجيد الشعر، وأن الشاعر قد يعجز عن التعبير النثري الرصين، وكنتُ أؤمن- إلى وقتٍ قريب - أن هذه القاعدة صحيحة، حتى بدأت أكتشف نماذج نقضتها. حين عدت إلى التاريخ الأدبي، وجدت في سيرة عباس محمود العقاد مثالًا واضحًا؛ فبالرغم من كونه شاعرًا، إلا أن شهرته النثرية طغت على نتاجه الشعري، لا سيما في مجالات المقالة والفكر.
وكذلك الحال مع غازي القصيبي، الذي كتب الشعر بتمكن، وكتب الرواية والمقالة بلغة مشبعة بالذوق الأدبي، فجاءت كتاباته مزيجًا فريدًا بين الحُسنين. ولم أتوقف عند النماذج التاريخية، بل التقيت بعدد من المبدعين المعاصرين الذين انطلقت تجاربهم بشكلٍ مشابه: بعضهم بدأ بكتابة الخاطرة، ثم تعمق في الشعر العمودي لاحقًا، وبعضهم نشأ في بيئة تحتم عليه نظم الشعر، لكنه اكتشف لاحقًا أن التعبير النثري يمنحه بُعدًا أوسع، فكتب فيه وأجاد.
كل هذا يقودني إلى قناعة شخصية مفادها أن المبدع الذي وصفته بالاستثنائي هو ذاك الذي وجد في نفسه القدرة، أو الرغبة، في تحقيق الكتابة في شكلين مختلفين ظاهريًا، لكنهما من الداخل يشتركان في هدفٍ واحد:
نقل التجربة الإنسانية بأصدق صورة. من وجهة نظري، تخاطب الكتابة الشعرية العاطفة وتلامس الإحساس بجمالياتها الموسيقية وصورها البلاغية، فيما تحاكي الكتابة النثرية العقل وتحكمه بالتسلسل المنطقي والشرح والتأمل. وقد يرى البعض العكس، لكن الحقيقة أن كليهما يعمل باتجاه الغاية ذاتها، وهي التأثير في المتلقي، كلٌ بأسلوبه.
لذلك، حين يستعين المبدع بالشكلين معًا، فلا يكون ذلك ترفًا إبداعيًا، بل ضرورة يفرضها عمق التجربة أو اتساعها، حين لا تكفيه الموسيقى وحدها ولا السرد وحده. وأعتقد أن من يلجأ لهذا المزج ليس فقط راغبًا في الخروج عن النمط التقليدي، بل مستشعرًا لحاجة داخله لا يمكن إشباعها إلا عبر هذه الكتابة المركبة التي تمنح نصه أفقًا أرحب وعمقًا آخر.
انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.
0 تعليق