اليوم الجديد

اقتراب الذكاء الاصطناعي العام ورؤية OpenAI للازدهار

تعتقدOpenAI  أن تحقيق الذكاء الاصطناعي العام (AGI) بات قريبًا، وترى في ذلك خطوة مهمة نحو ازدهار اقتصادي وتكنولوجي واسع. ففي وثيقة مؤلفة من 15 صفحة قدمتها إلى البيت الأبيض، استجابت الشركة لطلب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بوضع خطة لتعزيز الذكاء الاصطناعي. تتبنى OpenAI نبرة تفاؤلية حيال إمكانات AGI المستقبلية، لكنها في الوقت ذاته تُحذّر من التحديات الجيوسياسية المصاحبة لها. أكدت OpenAI في مقدمة مقترحها أن الوصول إلى أنظمة ذكاء اصطناعي فائقة القدرات يمكن أن يُطلق حقبة جديدة من الازدهار الاقتصادي والمعرفي، إذا ما أُحسن توجيهها ضمن سياسات مدروسة.


بقلم: هاشم ابوبكر، خبير الذكاء الاصطناعي وإنترنت الاشياء


هواجس التفوق الصيني والمنافسة مع  DeepSeek

رغم تفاؤلها بآفاق  AGI، شددت OpenAI على مخاوف جدية من تسارع التفوّق الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي. فقد كرّرت الوثيقة التحذير من طموحات جمهورية الصين الشعبية ودور الحزب الشيوعي الصيني في دعم هذا التقدم. واستشهدت OpenAI  بشكل لافت بشركة صينية منافسة تدعى DeepSeek  كنموذج للصعود السريع لقدرات الصين التقنية. ووصفت نموذج الذكاء الاصطناعي الأخير لـ DeepSeek بأنه تطور “جدير بالانتباه” يضيّق الفجوة بين الولايات المتحدة والصين في هذا المجال. وحذّرت OpenAI من أن الإنجازات المتسارعة لخصوم الولايات المتحدة – مثل DeepSeek المدعومة حكوميًا – تُبرز أن التفوّق الأمريكي الحالي في الذكاء الاصطناعي” ليس واسعًا ويضيق باستمرار. كما أبدت الشركة قلقًا من إمكانية استغلال الحكومة الصينية لتقنيات الذكاء الاصطناعي كأداة جيوإستراتيجية، مشيرةً إلى أن منصات مثل DeepSeek قد تُستخدم للتأثير على دول أخرى ضمن مبادرات مثل مشروع “الحزام والطريق” الصيني.

حرية الابتكار والتعاون الحكومي الطوعي

في مواجهة هذه التحديات، دعت OpenAI إلى تبنّي سياسات تحافظ على حرية الابتكار للشركات الأمريكية وتعزز قدرتها التنافسية. اقترحت الشركة نهجًا “مرتكزًا على الحرية” في تنظيم الذكاء الاصطناعي، بحيث يكون تعاون القطاع الخاص مع الحكومة طوعيًا وليس قائمًا على قيود مُلزمة تعيق التطور. على سبيل المثال، تصف OpenAI استعمال الجهات الحكومية للتقنيات الحالية بأنه “دون المستوى المقبول”، وتقترح إزالة العوائق البيروقراطية وتبسيط متطلبات الامتثال لتسريع تبنّي وكالات الدولة للذكاء الاصطناعي. كما لمّحت إلى إمكانية إنشاء إطار شراكة طوعي بين الحكومة الفيدرالية والشركات الرائدة، بإشراف وزارة التجارة أو عبر منصب “قيصر الذكاء الاصطناعي”، ليكون بمثابة بوابة موحّدة لتنسيق التعاون والخبرات بين القطاعين في المسائل الإستراتيجية والأمنية.

دعم ضوابط التصدير وأمن سلاسل الإمداد

تأييد OpenAI لحرية الابتكار لم يمنعها من دعم إجراءات لحماية الأمن القومي مثل ضوابط تصدير التكنولوجيا المتقدمة. أبرزت الشركة ضرورة فرض قيود مدروسة على تصدير أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي والمكونات الحساسة (مثل الشرائح المتطورة) لمنع وقوعها في أيدي منافسين قد يستغلونها لتضييق الفجوة مع الولايات المتحدة. لكنها شددت على أن تكون ضوابط التصدير ذكية ومتوازنة بحيث لا تأتي بنتائج عكسية تسرّع تطوير الذكاء الاصطناعي خارج الولايات المتحدة. ينسجم هذا الموقف مع حرص الشركات الأمريكية الكبرى عمومًا على الحفاظ على ميزة تفاضلية في التقنيات المتقدمة، من دون كبح قدرتها على التوسع في الأسواق العالمية الآمنة.

حماية التدريب تحت مظلة “الاستخدام العادل

من النقاط المحورية في مقترح OpenAI الدعوة إلى تحديث قوانين حقوق النشر بما يتيح استخدام المحتوى المحمي عند تدريب النماذج ضمن مبدأ “الاستخدام العادل”. ترى OpenAI أن قدرة نماذج الذكاء الاصطناعي على التعلم من كم هائل من البيانات – بما فيها مواد خاضعة لحقوق نشر – أمر حيوي للحفاظ على ريادة أمريكا التقنية. وحذّرت من أن القواعد الصارمة التي تمنع هذا الاستخدام قد تبطئ الابتكار وتقيد توفر بيانات التدريب. لذلك تقترح الشركة إستراتيجية لحقوق النشر تحمي حقوق المبدعين وفي الوقت نفسه تصون قيادة الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي باعتبارها قضية أمن قومي. وقد جاء هذا المقترح على خلفية تزايد الانتقادات والدعاوى القضائية ضد شركات الذكاء الاصطناعي بزعم انتهاك حقوق الملكية الفكرية خلال تدريب نماذجها على محتوى من الإنترنت. فبينما تؤكد OpenAI وأقرانها أن هذا الاستخدام عادل وضروري لتطوير قدرات نماذج أكثر ذكاءً، لا يزال الجدل القانوني محتدمًا حول مدى مشروعيته. من هنا، تأمل OpenAI أن يرسي صانعو السياسات إطارًا قانونيًا واضحًا يوازن بين حق المبدعين في عوائد أعمالهم وحق نماذج الذكاء الاصطناعي في التعلم من تلك الأعمال لخدمة الصالح العام.

تحديات البنية التحتية والطاقة في سباق التفوق

سلّطت الوثائق المقدمة أيضًا الضوء على تحديات البنية التحتية المصاحبة للسباق في ميدان الذكاء الاصطناعي. فأشار كل من OpenAI وجهات أخرى إلى الارتفاع الهائل في الطلب على مراكز البيانات والحاجة إلى قدرة حوسبة خارقة لتدريب وتشغيل النماذج المتقدمة. هذا الانتشار السريع لتطبيقات الذكاء الاصطناعي يستنزف الطاقة ويتطلب شبكات كهرباء وبنية تحتية رقمية قادرة على مواكبته. اقترحت OpenAI وغيرها من الجهات إصلاحات جذرية في قطاعي البنية التحتية والطاقة لضمان تلبية الاحتياجات المتصاعدة. من بين الأفكار المطروحة إنشاء مناطق خاصة أو حوافز استثمارية ضخمة لبناء مراكز بيانات جديدة وتعزيز شبكات نقل الكهرباء. وحذّرت OpenAI من أنه إذا لم تتحرك الولايات المتحدة سريعًا لتوفير بيئة مواتية لاستثمارات بمئات مليارات الدولارات في هذا المجال، فإن تلك الاستثمارات قد تتجه إلى مشاريع تدعمها دول منافسة. في المقابل، تتمتع الصين بنموذج حشد مركزي للموارد؛ حيث يستطيع نهجها السلطوي تعبئة الاستثمارات والبنية التحتية بسرعة هائلة دعماً لطموحاتها التقنية. هذا الوضع يضع ضغطًا إضافيًا على الولايات المتحدة لتبنّي سياسات استباقية تحافظ بها على تفوّقها التقني دون أن تتخلى عن مبادئ السوق الحرة.

مقترحات جوجل: تبني حكومي وتحديث البنية التشريعية

في الوثيقة التي قدمتها شركة جوجل والمكونة من 12 صفحة، ركزت الشركة على خطوات تعزيز المنظومة الأمريكية للذكاء الاصطناعي من الداخل. أحد أبرز توصيات جوجل كان حثّ الجهات الحكومية على تبنّي تقنيات الذكاء الاصطناعي و”القيادة بمفهوم القدوة” في استخدامها. دعت الشركة الوكالات الحكومية إلى تحديث إجراءاتها واعتماد حلول الذكاء الاصطناعي في العمليات اليومية لتحسين الكفاءة والخدمات، على أن يتم ذلك بالاستفادة من منتجات متنوعة من عدة مزودين لضمان التنافسية والابتكار. كما أشارت جوجل إلى أمثلة عملية، مثل إمكانية استخدام وزارة التجارة لأدوات الذكاء الاصطناعي لتعزيز تتبع سلاسل التوريد وإنفاذ ضوابط التصدير بكفاءة أعلى.

إلى جانب التبنّي الحكومي، شددت جوجل على أهمية الاستثمار في البنية التحتية اللازمة لازدهار الذكاء الاصطناعي. رأت الشركة أن على الحكومة تسهيل تطوير البنية التحتية للطاقة اللازمة لمراكز البيانات العملاقة، عبر تبسيط تصاريح إنشاء مرافق الطاقة الجديدة وتقديم حوافز لشركات المرافق لتحسين كفاءة استخدام الشبكات الكهربائية الحالية. كما دعت إلى زيادة دعم البحث والتطوير (وخاصة في المراحل المبكرة قبل دخول السوق) وتمويل تحديات ومسابقات تحفز اختراقات نوعية في مجال الذكاء الاصطناعي. ولم تغفل جوجل مسألة توفير موارد الحوسبة للباحثين؛ إذ اقترحت توسيع الوصول إلى منصات الحوسبة المتقدمة للجامعات ومراكز الأبحاث لضمان استمرار زخم الابتكار العلمي.

قوانين حقوق النشر المتوازنة وتجنب تشرذم التشريعات

على غرار OpenAI، تناولت جوجل في توصياتها مسألة حقوق النشر وبيانات التدريب. دعمت الشركة إدخال استثناءات قانونية صريحة تسمح باستخدام المواد المحمية عند تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي، لا سيما عندما تكون تلك المواد منشورة ومتاحة للعامة. بحجة أن مثل هذه الاستثناءات ضرورية لتطوير تطبيقات مفيدة – كالأدوات التي تسرّع البحث العلمي من خلال تحليل سريع لأعداد ضخمة من الأوراق الأكاديمية – أكدت جوجل أن التفسير المرن لحقوق النشر سيكون عاملًا تمكينيًا للابتكار. وفي الوقت نفسه، شددت على ضرورة حماية حقوق المبدعين وعدم تجاهل مصالحهم، ما يوحي بسعيها إلى قانون متوازن يحقق التوافق بين الطرفين.

كما أبدت جوجل قلقًا من نشوء منظومة قوانين متضاربة على مستوى الولايات الأمريكية فيما يخص تنظيم الذكاء الاصطناعي. لذا دعت إلى تشريع فيدرالي موحّد يحول دون حدوث تجزئة تنظيمية قد تربك الشركات وتعرقل النمو. هذا المطلب يهدف إلى منع تشتت القواعد بين ولاية وأخرى – وهو أمر ترى فيه الشركة خطرًا يُهدد وتيرة التطوير التقني ويزيد من الأعباء على المطورين. وقد لقيت هذه الدعوة صدى لدى جهات أخرى أيضًا، إذ توافق العديد من الجهات الصناعية على أن الوضوح والتوحيد التشريعي على المستوى الفيدرالي سيكون أفضل من تباين القوانين محليًا.

جدير بالذكر أن مقترح جوجل افتقر تمامًا لأي ذكر للصين أو لـ DeepSeek بخلاف مقترح OpenAI. فقد تجنّب عملاق البحث الإشارة المباشرة للمنافسة الجيوسياسية، وركز بدلاً من ذلك على خلق بيئة داخلية مواتية للابتكار. هذا التباين في النبرة بين الشركتين يعكس اختلافًا في الإستراتيجية: OpenAI تبنّت لهجة تحذير إستراتيجي تضع المنافسة مع الصين في الواجهة، فيما جوجل ركزت على معالجة العوائق المحلية وتطوير القدرات الوطنية بغض النظر عن التحدي الخارجي المباشر.

مقترح Anthropic والتوجهات المشتركة

شركة Anthropic الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي قدمت هي الأخرى رؤيتها للسياسات المطلوبة، وجاءت في مضمونها منسجمة إلى حد كبير مع طروحات OpenAI وجوجل.  شددت Anthropic على ضرورة الحفاظ على زخم الابتكار الأمريكي في مواجهة المنافسة العالمية، ودعت إلى تسهيل التعاون بين القطاعين العام والخاص لتسريع تبنّي الذكاء الاصطناعي في مختلف مؤسسات الدولة. وكحال نظيراتها، تناولت Anthropic أهمية تأمين البنية التحتية ودعم قدرات الحوسبة والطاقة لتلبية الطلب المتزايد، كما نبّهت إلى المخاطر الإستراتيجية فيما لو تخلّفت الولايات المتحدة في هذه الجوانب الحيوية.

فيما يتعلق بحقوق النشر وبيانات التدريب، أيّدت Anthropic توجّه إقرار إطار استخدام عادل يسمح بتدريب النماذج على محتوى واسع النطاق مع الحفاظ على حقوق أصحاب المحتوى. وعلى صعيد ضوابط التصدير، شاركت Anthropic المخاوف حيال تسرب التقنيات المتقدمة خارج السيطرة، ودعت إلى سياسات تمنع تهريب الشرائح المتطورة إلى الصين وسد الثغرات في سلاسل الإمداد التي يمكن أن تستغلها جهات خارجية. كما ذهبت الشركة في بعض توصياتها خطوة أبعد، مثل اقتراحها إجراء تدقيق حكومي شامل لتحديد جميع المجالات التي يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي تعزيزها عبر الأجهزة الحكومية، بل وحتى دعوة وزارة الدفاع والأجهزة الاستخباراتية إلى تكثيف تبنّي الذكاء الاصطناعي بشكل أسرع لضمان التفوق التقني في ساحات الأمن القومي.

ورغم أن Anthropic شركة حديثة نسبيًا مقارنة بعمالقة المجال، إلا أن طرحها بدا متوافقًا في الجوهر مع رؤية منافسيها الأمريكيين. هذا الإجماع الضمني بين OpenAI وجوجل وAnthropic وجهات أخرى يعكس شعورًا عامًا لدى القطاع التقني بأن مصالح الولايات المتحدة الإستراتيجية والتجارية تتطلب بيئة سياساتية مواتية تسمح بالابتكار السريع والمسؤول في آن واحد.

نحو شراكة إستراتيجية للحفاظ على الريادة الأمريكية

في المجمل، تكشف المقترحات المقدمة إلى البيت الأبيض عن رؤية مشتركة بين عمالقة الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة للحفاظ على التفوق الأمريكي في هذا المجال الحاسم. تتفق OpenAI وجوجل وAnthropic –  رغم تباينات التركيز – على عدد من المحاور الرئيسية:  تهيئة مناخ يشجع الابتكار والاستثمار في تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، وتحديث البنية التحتية المادية والتشريعية لمواكبة ثورة الذكاء الاصطناعي، وتعديل قوانين حقوق النشر لضمان وفرة البيانات اللازمة للتدريب مع احترام المبدعين، وأخيرًا تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص لصياغة استجابة وطنية فعالة للتحديات الدولية.

هذه الشركات تدرك أن حفاظ الولايات المتحدة على موقع الريادة يتطلب موازنة دقيقة بين الحرية التنظيمية والدعم الحكومي. فبينما تنظر OpenAI للأمر من زاوية سباق جيوسياسي محموم مع الصين يتطلب تحركًا سريعًا وإستراتيجيات أمن قومي، تركز جوجل على إزالة العوائق الداخلية التي قد تكبح انطلاقة الابتكار الأمريكي. أما Anthropic فتضيف إلى الصورة تأكيدًا على الشمولية في تبنّي الذكاء الاصطناعي عبر أجهزة الدولة والمجتمع ككل.

ومع تصاعد المنافسة العالمية، خاصة من الصين التي تسعى للوصول إلى القمة في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول 2030، تبرز أهمية التنسيق الوثيق بين واشنطن ووادي السيليكون. إن الشراكة بين القطاعين العام والخاص أصبحت أكثر من أي وقت مضى حتمية إستراتيجية لضمان عدم تضاؤل الفجوة التقنية التي تفصل الولايات المتحدة عن منافسيها. ويسعى صانعو السياسات، عبر خطة “العمل الوطنية للذكاء الاصطناعي” المنتظرة، إلى الاستفادة من هذه الرؤى المطروحة لصياغة إستراتيجية شاملة تحفظ للولايات المتحدة صدارتها، وتضمن في الوقت ذاته تطورًا مسؤولًا وأخلاقيًا لتقنيات الذكاء الاصطناعي لما فيه خير المجتمع الأمريكي والبشرية جمعاء.

نسخ الرابط تم نسخ الرابط

أخبار متعلقة :