اليوم الجديد

كيف شكلت الأمراض النفسية عقول أعظم المفكرين؟

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
كيف شكلت الأمراض النفسية عقول أعظم المفكرين؟, اليوم الأحد 23 مارس 2025 09:37 مساءً

كيف شكلت الأمراض النفسية عقول أعظم المفكرين؟

نشر بوساطة روان النغيمشي في الوطن يوم 23 - 03 - 2025


حين نقرأ سِيَر العظماء الذين غيَّروا مجرى الفكر الإنساني، نكتشف أن العبقرية ليست دائمًا هبةً مطلقة، بل قد تكون ابتلاءً يرافقه عذاب داخلي لا يراه إلا صاحبه. لطالما ارتبط الإبداع بالتقلبات النفسية، حتى قيل: «بين العبقرية والجنون خيط رفيع». العديد من الفلاسفة، والأدباء، والعلماء الذين سطروا أسماءهم في التاريخ كانوا يعانون اضطرابات نفسية، لكنهم حوّلوا معاناتهم إلى منارات أضاءت دروب الفكر البشري.
فريدريش نيتشه، الفيلسوف الألماني التائه في ظلام عقله، كان يعاني اضطرابات نفسية شديدة، يُعتقد أنها كانت نوعًا من الفُصام أو (اضطراب ثنائي القطب). عاش نيتشه عزلة تامة، يعاني نوبات صداع مؤلمة وهلوسات مرعبة. كان دائم القلق، متذبذب المِزاج بين نوبات من الإبداع المحموم والانهيار العقلي. في 1889، انهار تمامًا بعد حادثة تورينو الشهيرة، حيث رأى حصانًا يُجلد في الشارع، فاحتضنه باكيًا، وكأنه شعر أن الإنسانية كلها تعاني الألم نفسه الذي يسكنه. بعد هذه الحادثة، دخل حالة من الجنون التام إلى أن تُوفي، لكن إرثه الفلسفي ظل خالدًا، محملًا بأسئلة مرعبة حول القوة، والإرادة، والأخلاق.
فيودور دوستويفسكي، رائد الرواية النفسية، بين نوبات الصرْع وعبقرية السرد عاش حياة مضطربة ممتلئة بالصراعات النفسية. كان يعاني من الصَّرْع الذي لم يكن مجرد مرض عضوي، بل يرافقه إحساس عميق بالتجربة الروحية. كان يشعر في لحظات ما قبل النوبة أنه يلامس «اللامتناهي»، كما وصفه في رواياته. هذا الشعور انعكس على شخصياته مثل الأمير ميشكين في (الأبله)، الذي كان يرى العالم من منظور يختلف عن بقية البشر. دوستويفسكي لم يكن مصابًا بالصرْع فقط، بل عانى من الاكتئاب ونوبات القلق، إضافة إلى إدمانه للقِمار، لكن هذه الاضطرابات لم تمنعه من كتابة أعظم الأعمال الأدبية التي حفرت في عمق النفس البشرية.
سيجموند فرويد، الأب الروحي للتحليل النفسي، هو الرجل الذي فكَّك أعماق النفس البشرية، لكنه لم يكن بعيدًا عن صراعاتها الداخلية. تشير العديد من الدراسات إلى أنه كان يعاني نوبات اكتئاب شديدة، إضافة إلى رُهاب الموت، الذي ظل يطارده طوال حياته. كان مهووسًا بنظرية (الهِستيريا)، ويقال: إنه كان يعاني أعراضها، وهذا دفعه إلى دراسة العقل الباطن بنهمٍ محموم. ولكنه في المقابل منحه رؤية مختلفة عن غيره جعلته يضع الأسس الأولى لفهم العُقد النفسية واللاشعور. ولا يمكن نسيان صراعاته العاطفية ونظرياته حول النساء، تلك النظريات التي كان متهمًا أنها إسقاط لصراعاته الداخلية؛ بسبب أنه كان يعاني مشاكل نفسية مع عائلته لعلاقته المعقدة بأمه، وهذا ما دفعه لأن يكون أسيرًا لنظرته البيولوجية المتطرفة حول الهُوية الجنسية.
سقراط، الفيلسوف الذي علّم البشرية فن التساؤل، كان يُنظر إليه في عصره بأنه شخص غريب الأطوار، بل ومجنون أحيانًا. كان يتحدث عن «ديمون» داخلي، صوت خفي ينصحه ويوجهه، وهو ما دفع البعض إلى الاعتقاد بأنه يعاني نوعًا من الفُصام أو الهلوسات السمعية. هذه الأفكار، التي كانت تبدو للبعض ضربًا من الهذيان، شكلت في الواقع نواة الفكر الفلسفي الذي غيّر مسار التاريخ. لم يكن سقراط يخشى المواجهة، حتى حين حُكم عليه بالإعدام بتهمة إفساد الشباب، شرب السم بنفسه في مشهد خالد، كأنه أراد أن يثبت أن الحقيقة تستحق أن تموت من أجلها.
إسحاق نيوتن العبقري المتوحد والمهووس بالأسرار، الرجل الذي غيَّر وجه العلم، كان شخصية غامضة ومعقدة نفسيًّا. انطوائيًّا بشكل مفرط، يعاني فترات اكتئاب حاد، ومهووسًا بالخيمياء والرموز الغامضة. تشير بعض الدراسات إلى أنه ربما كان يعاني «متلازمة أسبرجر»، وهذا يفسر تركيزه الاستثنائي وعزلته الاجتماعية. لكنه مع ذلك، استطاع أن يضع قوانين الحركة والجاذبية، وكأن وَحدته العميقة جعلته يتأمل الكون بطريقة لم يسبقه إليها أحد.
سيمون دي بوفوار، الفيلسوفة والكاتبة الفرنسية البارزة، تُعَدُّ من أهم رموز الحركة النّسْوية في العالم. اشتهرت بكتابها «الجنس الآخر» الذي تناولت فيه قضايا المرأة والمجتمع. ورغم إنجازاتها الفكرية، لم تكن حياتها الشخصية خالية من التحديات النفسية، عانت دي بوفوار اضطرابات عاطفية ونفسية؛ حيث كانت تشعر بارتباك عاطفي ووجودي، وهو ما أثر في قدرتها على الكتابة والتفكير. إضافة إلى ذلك، كانت تعاني صراعات داخلية تتعلق بهويتها الأنثوية وعلاقتها بالمجتمع. تحدثت في كتاباتها عن مشاعر الاغتراب والرفض لأنوثتها، وهذا يشير إلى معاناتها من اضطرابات نفسية مرتبطة بالهُوية والجندر.
وأخيرًا هل المرض النفسي هو الوقود الخفي للعبقرية؟ أم العقول الفذة تكون أكثر عرضة للتمزق الداخلي بسبب إدراكها العميق للعالم؟ في الواقع ليس بالضرورة أن يكون المرض النفسي شرطًا للعبقرية، لكنه قد يكون دافعًا إلى الإبداع عند بعض الأشخاص؛ حيث يحولون آلامهم الداخلية إلى رؤى عظيمة وأعمال خالدة. هؤلاء العظماء لم يكونوا مجرد ضحايا لأمراضهم، بل كانوا محاربين، خاضوا معاركهم النفسية بوسائلهم الخاصة، سواء بالكلمة، أو بالفكر، أو بالعلم.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.




أخبار متعلقة :