لم يكن تصريح بنيامين نتنياهو عن استعداد إسرائيل "لدعم لبنان في جهوده لنزع سلاح حزب الله" مجرّد جملة عابرة في سياق دبلوماسي، بل يمكن اعتباره حلقة مفصلية في مسار سياسي وأمني تقوده واشنطن منذ أسابيع، ويُراد له أن يُترجَم خطواتٍ ملموسة على الأرض، خصوصًا أنّ مشكلة الوساطة الأميركية حتى الآن تمثّلت في عجزها عن تقديم أيّ ضمانات، باعتراف الموفد الأميركي توم براك في واحدة من زياراته إلى لبنان.
جاء تصريح نتنياهو بعيد انتهاء زيارة الموفد الأميركي توم باراك إلى تل أبيب، وقبل وصوله إلى بيروت، وكأنّ المطلوب أميركيًا هو "حجز وعد" من إسرائيل، ولو بالحد الأدنى، لعرضه على الحكومة اللبنانية كجزء من آلية "الخطوات المتوازية". لكن القراءة المعمّقة لهذا الموقف تكشف أنّ تل أبيب تحاول تحويل خطة نزع السلاح من مسار لبناني داخلي إلى منصّة ابتزاز سياسي وأمني، تحت شعار "الدعم"، مع فرض شروط على أيّ خطوة يمكن أن تقدم عليها.
من خلال تصريحه، يقدّم نتنياهو نفسه كمن يمدّ يد العون للبنان الرسمي، لكن التدقيق في العبارات المستخدمة يكشف أن الحديث يدور عن "خفض تدريجي" للوجود الإسرائيلي وعن "إجراءات متبادلة" مرتبطة بآلية تقودها واشنطن، أي أنّ إسرائيل لا تعرض انسحابًا أو التزامًا نهائيًا، بل تبقي ورقة الضغط بيدها لتقدّمها على جرعات، وفق تقييمها للخطوات اللبنانية.
ويعني ذلك أنّ التصريح ليس دعمًا بقدر ما هو اشتراط صريح: على الدولة اللبنانية أن تتخذ خطوات ملموسة في ملف سلاح حزب الله، وعندها فقط ستُقابل بخطوات إسرائيلية محسوبة، بمعزل عن اتفاق وقف إطلاق النار الذي تخرقه إسرائيل يوميًا. وبهذا، يكون نتنياهو قد أعاد تعريف المعادلة: لا انسحاب، لا تهدئة شاملة، بل تقليص تدريجي مشروط ومعلّق على أداء بيروت.
بهذا المعنى، يمكن القول إنّ زيارة توم باراك إلى إسرائيل قبل بيروت عكست حاجة الإدارة الأميركية إلى "تثبيت الحد الأدنى" من التزامات إسرائيلية قبل أن يهبط الموفد على المسؤولين اللبنانيين، فواشنطن التي دفعت الحكومة اللبنانية إلى إصدار قرارات في 5 و7 آب حول حصرية السلاح بيد الدولة، وجدت نفسها مضطرة لتأمين غطاء إسرائيلي لهذا المسار كي لا يظهر وكأنه ضغط أحادي على بيروت. ولذلك، جاء تصريح نتنياهو كجزء من هذه اللعبة: منح باراك مادة سياسية ليقدّمها في بيروت، من دون أن يقيّد تل أبيب بأي التزام عملي كبير. بكلمات أخرى، واشنطن أرادت ضمانات، لكن ما حصلت عليه حتى الآن هو وعود لفظية قابلة للتأويل.
في الداخل اللبناني، تبدو المعادلة أكثر تعقيدًا، حيث مثّلت قرارات مجلس الوزراء الأخيرة في جلستي الخامس والسابع من آب، لحظة حساسة في العلاقة بين الدولة و"حزب الله"، إذ فُسّرت على أنها بداية مسار لنزع السلاح. بيد أنّ الحزب قرأ هذه الخطوات بوصفها خضوعًا لضغوط خارجية، وردّ بدعوة شعبية إلى تجمّع في ساحة رياض الصلح يوم الأربعاء، ليؤكد تمسكه بسلاحه كجزء من معادلة الردع الإقليمي.
بمعنى آخر، فإنّ هذه التعبئة ليست مجرد حشد جماهيري، بل هي رسالة مزدوجة: للحكومة بأنّ أيّ قرار لا يحظى بغطاء المقاومة سيبقى حبرًا على ورق، وللخارج بأنّ الشارع الشيعي ما زال حاضرًا لفرض سقف تفاوضي لا يمكن تجاوزه. بهذا، يتحوّل المسار اللبناني إلى حقل ألغام داخلي، حيث تجد الحكومة نفسها مضطرة للموازنة بين التزاماتها أمام المجتمع الدولي وضغوط الشارع الداخلي.
في المقابل، يوفّر تصريح نتنياهو مكاسب سياسية من منظور تل أبيب، من دون أن تضطر إلى دفع أثمان حقيقية. فإسرائيل تستطيع أن تقول لواشنطن إنها متجاوبة، وأن تضع الكرة في الملعب اللبناني، من دون أن تغيّر شيئًا ميدانيًا. على العكس، يمكن لنتنياهو أن يستفيد من إبقاء وجوده العسكري ورقة ضغطٍ بيده، وأن يربط أيّ خفض في هذا الوجود بتقدّم لبناني في ملف نزع السلاح.
بذلك، تتحول خطة نزع السلاح إلى عملية ابتزاز مزدوجة: الحكومة اللبنانية مطالَبة بالخطوات، ولو أدّت إلى انقسام يُخشى أن يتفاقم أكثر في ظلّ موقف "الثنائي الشيعي" من الحكومة ورئيسها، الذي اتهمه الحزب بتنفيذ الإملاءات الأميركية والإسرائيلية، وإسرائيل تملك حقّ منح أو حجب "المقابل". هذا ما يجعل تصريح نتنياهو في جوهره إعادة إنتاج لمعادلة "الأمن مقابل السياسة"، حيث تحتفظ إسرائيل بحق التدخل في تعريف الأمن اللبناني وحدود السيادة.
ولذلك ربما، فإنّ المسألة بالنسبة إلى "حزب الله" لا تتعلق فقط بالدفاع عن سلاحه كخيار استراتيجي، بل بقراءة أوسع لموازين القوى الإقليمية، إذ يعتبر الحزب أنّ أي نقاش حول سلاحه في ظل استمرار الخروقات الإسرائيلية سيعني عمليًا نزع عنصر الردع الوحيد الذي يملكه لبنان. لذلك، فإنّ تمسكه بالسلاح ليس مجرد عناد داخلي، بل امتداد لرؤية أوسع تربط هذا السلاح بمواجهة المشروع الإسرائيلي–الأميركي في المنطقة.
أمام هذا المشهد، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات: الأول أن يحصل لبنان على ضمانات واضحة من إسرائيل بوقف الغارات والانسحاب التدريجي من النقاط المحتلة، مقابل تقدّم مدروس في ملف نزع السلاح، وهو ما يحتاج إلى إرادة أميركية قوية وقدرة على إلزام إسرائيل، وهو أمر غير مضمون. أما السيناريو الثاني فيقضي بأن تبقى الأمور على حالها، مع استخدام تصريح نتنياهو كغطاء سياسي لإبقاء الضغط على الحكومة اللبنانية، من دون أي تغيير عملي. ويبقى السيناريو الثالث، وهو التصعيد المتبادل، بحيث يتمسك الحزب بسلاحه ويرفض أي خطوة أحادية، فيما تواصل إسرائيل ضرباتها بذريعة أنّ لبنان لم يلتزم. في هذه الحالة، يُعاد الملف إلى المربّع الأول مع احتمالات مفتوحة على توترات أكبر.
في المحصّلة، يمكن القول إن تصريح نتنياهو ليس عرضًا سخيًا بقدر ما هو رسالة ابتزاز سياسي: إسرائيل "مستعدة" للدعم فقط إذا نزع لبنان سلاح "حزب الله"، علمًا أنّ هذا الدعم يفترض أن يكون من واجباتها بموجب اتفاق وقف إطلاق النار المبرم العام الماضي. وفي المقابل، يرفع الحزب السقف ويؤكد أنّ سلاحه غير قابل للتفاوض، فيما تجد الحكومة نفسها عالقة بين ضغط الخارج وتوازنات الداخل.
وبين واشنطن التي تبحث عن "خطوات متوازية" وتل أبيب التي تعرض "خفضًا تدريجيًا مشروطًا"، تبدو بيروت أمام خيار صعب: إما الانخراط في مسار محفوف بالمخاطر قد ينفجر داخليًا، أو تجميد الخطوات بانتظار تبدّل موازين القوى. وفي كلتا الحالتين، يتأكد أنّ ملف نزع السلاح لم يعد قضية لبنانية بحتة، بل أصبح ساحة اختبار إقليمي ودولي، حيث تُقاس قوة الحكومة بقدرتها على الصمود في وجه المقايضات، أكثر مما تُقاس بقدرتها على تنفيذ قراراتها.
أخبار متعلقة :