اليوم الجديد

مارجريت مجدي أنور تكتب: ريادة الأعمال ليست للجميع.. هل نبالغ في تمجيد ثقافة “ابدأ شركتك”؟

تعيش مجتمعاتنا لحظة تاريخية غير مسبوقة في حجم الإيمان الجمعي بريادة الأعمال، لم تعد الشركات الناشئة مجرّد خيار مهني، بل تحوّلت إلى رمز للنجاح، والاستقلال، وحتى “التحقّق الذاتي” .

صفحات التواصل الاجتماعي، والمبادرات الحكومية، والمنصات الإعلامية، والمحتوى الرقمي، تتنافس في إيصال رسالة واحدة: “كن مؤسسًا، واصنع مستقبلك بيدك”

لكن وسط هذا الزخم، نغفل عن سؤال جوهري: هل ريادة الأعمال حقًا هي الطريق المناسب للجميع؟ هل ندفع الآلاف نحو طريق محفوف بالتحديات، دون تأهيل حقيقي أو فهم عميق لطبيعته؟

المغالطة الكبرى: كل شخص يمكن أن يكون رائد أعمال

الترويج الواسع لفكرة “أي شخص يمكنه أن يبدأ شركته”، يحوّل ريادة الأعمال من مسار مهني له متطلبات واضحة، إلى حالة رومانسية من التمكين الفردي.

ورغم أن هذه الفكرة قد تبدو محفّزة، إلا أنها في الواقع خطرة، فهي لا تأخذ في الاعتبار الجوانب النفسية، والاجتماعية، والمالية المرهقة المرتبطة بتأسيس الشركات، خصوصًا في الأسواق الناشئة.

تقرير Startup Genome 2024 يشير إلى أن 9 من كل 10 شركات ناشئة حول العالم تفشل في أول ثلاث سنوات، وغالبًا لأسباب تتعلق بسوء فهم السوق، ضعف الإدارة، أو انهيار الفرق.

أما في مصر، فتُظهر البيانات الاستثمارية من عدة تقارير أن غالبية الشركات التي تم إغلاقها في آخر ثلاث سنوات لم تصل أصلًا إلى نقطة التعادل المالي (Break-even)، ما يشير إلى أن كثيرًا من المؤسسين يبدأون الرحلة دون أدوات النجاة الأساسية.

وهنا يبرز التناقض: بينما يُروّج لريادة الأعمال كأداة للتمكين والتقدّم، يتحوّل غياب الحذر في الخطاب إلى أداة لصناعة خيبات أمل، بل أحيانًا إفشال مبكر لكفاءات كان من الممكن أن تتألق في مسارات أخرى.

ريادة الأعمال تتطلّب بنية نفسية وتنظيمية لا يمتلكها الجميع

المؤسس لا يحتاج فقط إلى فكرة مبتكرة، بل إلى قدرة على تحمّل الفوضى، والغموض، والعزلة.

الضغوط المالية،و التذبذب في الدخل، وانعدام الأمان الوظيفي، وصعوبة التوازن بين الحياة والعمل.. جميعها ليست مشكلات عارضة، بل سمات يومية في حياة الريادي.

في دراسة أجرتها Harvard Business Review عام 2023 أقرّ 72% من مؤسسي الشركات الناشئة بأنهم عانوا من أعراض مرتبطة بالقلق أو الإرهاق المزمن خلال أول عامين من المشروع.

اقرأ أيضا: مارجريت مجدي أنور تكتب: كيف تصنع “اللامركزية” مستقبل ريادة الأعمال بمصر؟

تحدٍّ كهذا يتطلّب أن يكون الشخص مؤهلًا نفسيًا ومهنيًا بشكل مسبق وليس أثناء التجربة. بل إن التحدي الحقيقي يكمن في غياب المساحات التي تُساعد الأشخاص على اختبار مدى ملاءمة هذا المسار لهم، قبل القفز نحوه بشكل كامل.

فلا توجد “تجربة نصف ريادة”، ولا مجال لإعادة الأموال بعد استنزافها، ولا يمكن استرداد الثقة المهدورة بعد الفشل الأول.

الريادة ليست البديل الطبيعي للبطالة

واحدة من أكثر التصورات المغلوطة شيوعًا في السياق المصري هي أن “اللي مش لاقي شغل يبدأ مشروعه الخاص”.

هذه الفرضية، وإن بدت براغماتية، تضع الأفراد في مواجهة مسؤوليات غير متناسبة مع خبراتهم أو جاهزيتهم.

النتيجة هي سوق مزدحم بأفكار ناقصة، مشاريع غير جاهزة، ومستثمرين فقدوا الحماسة. بل إن الجهات التمويلية أصبحت أكثر تحفظًا بعد موجات متتالية من المشاريع التي فشلت مبكرًا، ليس لضعف الفكرة، بل لضعف التأسيس.

الريادة ليست معبرًا من اليأس إلى الأمل، بل قرار اقتصادي استراتيجي يتطلّب فهمًا للسوق، وشغفًا بالمشكلة، واستعدادًا لتحمّل المسافة الطويلة .. فالفشل لا يجب أن يُطبّع.

صحيح أن ثقافة ريادة الأعمال تحتفي بـ”الفشل كجزء من التعلم”، وتستخدم عبارات مثل “افشل سريعًا”، و”التعلم يأتي من الخطأ”، لكن هذه الثقافة أصبحت تُردّد أحيانًا بشكل سطحي وخطير.

فهي تُجمّل الفشل، وتحوّله من تجربة تستوجب التقييم والمعالجة إلى وسام شرف يُرفع دون تحليل.

الواقع أن الفشل المبكر في مشروع ناشئ لا يمر دون أثر نفسيًا، يتعرّض كثير من المؤسسين لشعور بالإحباط، وفقدان الثقة بالنفس، وحتى الانعزال عن الدائرة الاجتماعية بسبب توقعات لم تتحقق.

ماليًا، قد يكون الفشل مدمّرًا، خصوصًا إذا تم تمويل المشروع من مدخرات شخصية أو قروض عائلية أو التزامات تجاه شركاء.

العديد من هؤلاء المؤسسين لا يعودون للتجربة، ليس لافتقادهم للكفاءة، بل لأنهم شعروا أنهم احترقوا في تجربة لم يكونوا مستعدين لها من الأساس. في حالات كثيرة، لا يتعلّم الشخص من الفشل، بل يهرب منه.

وهنا تكمن الخطورة: عندما تُستخدم ثقافة “التطبيع مع الفشل” كذريعة للتقليل من أهمية الإعداد الجيد، ودراسة الجدوى، والتخطيط المالي، وبناء الفريق المناسب، فإننا لا نُشجّع على المرونة، بل على التهوّر.

التعلّم من الفشل الحقيقي لا يحدث إلا إذا سبقه تأسيس جاد وتبعه تقييم واعٍ، أما الفشل الناتج عن قفزات غير محسوبة، فيترك وراءه جيلًا من الموهوبين فقدوا الثقة في أنفسهم، وفي البيئة الريادية نفسها.

متى تكون ريادة الأعمال خيارًا ناضجًا؟

لكي تكون الريادة خيارًا مناسبًا، لا بد أن تمرّ بثلاث مراحل، أولها الاختبار الذاتي: هل أتحمّل الغموض؟ هل يمكنني اتخاذ قرارات في بيئة بلا مرجعية ثابتة؟

بينما تأتي المرحلة الثانية، وهي الفهم التجاري: هل أستوعب معنى السوق، والتكاليف، والإدارة، والربحية؟ وهل أميز بين منتج يعجبني ومنتج يحتاجه السوق؟

أخيرًا تأتي مرحلة الاستعداد الشخصي: هل أملك دعمًا نفسيًا أو اجتماعيًا لتحمل ضغوط البداية؟ هل لدي بدائل إن لم تنجح الفكرة؟ حين تتوافر هذه العناصر، تكون الريادة خيارًا ناضجًا.

النجاح لا يأتي في شكل واحد

النموذج السائد اليوم يعيد صياغة النجاح الفردي بشكل ضيّق جدًا: أن تؤسس شركتك، وتجذب تمويلاً، وتظهر في مؤتمر، وتخرج في مقابلة.

هذا النموذج لا يترك مساحة حقيقية للاعتراف بأن أشكال النجاح متعددة ومتكافئة في القيمة.

في الواقع، من يعمل ضمن فريق في شركة مستقرة ويقود تحولًا رقميًا، أو من يدرّس، أو يطوّر حلاً داخل مؤسسة حكومية، قد يحقق تأثيرًا أكبر من رائد أعمال يكافح للبقاء.

لكن لأن “الريادة” أصبحت رمزًا ثقافيًا للتميز، بدأ يُنظر لأي مسار آخر كأنه فشل أو تخلف.

نحن بحاجة فعلًا إلى إعادة تعريف النجاح بعيدًا عن النموذج الضيق الذي يحصره في تأسيس الشركات الناشئة فقط.

فالنجاح لا يُقاس دائمًا بعدد جولات التمويل أو الظهور الإعلامي، بل يمكن أن يتجلى في صور مختلفة، لا تقل قيمة أو تأثيرًا.

من بنى مسارًا مهنيًا طويل الأمد داخل مؤسسة وأثر فيها

هناك موظفون وقادة داخل شركات كبرى أو مؤسسات حكومية أحدثوا تغييرات جذرية في طرق العمل، وأعادوا تشكيل استراتيجيات التشغيل أو أدخلوا حلولًا رقمية غيرت من إنتاجية المؤسسة بالكامل.

هؤلاء يصنعون فارقًا قد يكون أثره أوسع من نجاح شركة ناشئة صغيرة، لكن قصصهم لا تحظى بنفس القدر من الاحتفاء.

من يعمل حرًا بشكل مستقل ويعيش حياة متوازنة

العمل الحر لا يعني دومًا السعي وراء التوسع أو بناء “إمبراطورية شخصية”، هناك من يختار أن يدير وقته بنفسه، ويقدّم خدمات أو منتجات محددة تكفيه وتمنحه حرية شخصية ومساحة للإبداع، مع الحفاظ على توازن صحي بين العمل والحياة.

مثل هذا النموذج قد يحقق مستوى أعلى من الرضا والاستدامة مقارنة برائد أعمال يطارد النمو بلا توقف.

من اختار البساطة أو الاستقرار، ورفض سباق “النمو بأي ثمن”

ليس كل نجاح مرهون بالمجازفة المستمرة أو بالركض وراء “اليونيكورن” القادم، البعض يرى في الاستقرار الوظيفي أو في مشروع صغير ثابت دخلًا ورضا أكبر.

اختيار البساطة قد يبدو للبعض “تنازلًا”، لكنه في الحقيقة تعبير عن وعي ونضج، خصوصًا إذا كان القرار نابعًا من إدراك عميق لأولويات الفرد وقيمه.

إعادة تعريف النجاح بهذا الشكل تفتح المجال لتقدير مسارات متنوعة، وتكسر الصورة النمطية التي تجعل من تأسيس الشركات الناشئة الخيار الوحيد الجدير بالاحتفاء.

بل إنها ترسّخ فكرة أن المجتمع بحاجة إلى كل هذه النماذج معًا: رائد الأعمال، الموظف المبدع، المستقل الحر، والشخص الذي اختار البساطة. كل منهم يضيف قيمة حقيقية، بطريقته الخاصة.

حتى في الولايات المتحدة، التي تعتبر أكثر البيئات دعمًا للشركات الناشئة، لا تزيد نسبة من أسسوا شركاتهم الخاصة على 7% من القوى العاملة، وفقًا لتقرير Global Entrepreneurship Monitor 2025. والبقية؟ يصنعون فرقًا حقيقيًا من مواقع أخرى.

إذن، لا ينبغي تسويق ريادة الأعمال كالمسار الطبيعي أو المفترض لكل فرد، ولا يجب بناء برامج وطنية أو رسائل إعلامية على افتراض أن “كل شاب يجب أن يصبح مؤسسًا”. هذه وصفة مضمونة للإرهاق الجماعي.

بل على العكس، المطلوب الآن هو تنوع النماذج، واحتفاء متساوٍ بمن يبتكر من داخل المؤسسات، أو يقود التغيير من خارجها، دون أن يُجبر الجميع على ارتداء عباءة “رائد الأعمال”.

شهدت خلال عملي مع المؤسسين والفرق الناشئة أن أنجح المشاريع لم تكن دائمًا لأكثر الناس “حماسًا”، بل لمن امتلك الوعي الكافي بطبيعة الطريق الذي اختاره.

التمكين الحقيقي لا يأتي من دفع الناس نحو مسار واحد، بل من إعطائهم الأدوات التي تساعدهم على اختيار الطريق الذي يناسبهم فعلًا.

بقلم: مارجريت مجدي أنور، مؤسس وعضو مجلس إدارة جمعية رواد الأعمال الشباب Youth Entreprenuers Network

أخبار متعلقة :