في كل عام، تتجدد ذكرى تربع الملك محمد السادس على عرش أسلافه الميامين، وتتجدد معها رسالة المملكة المغربية الثابتة تجاه قضاياها الوطنية ومحيطها الإقليمي. لقد شكلت دعوة "اليد الممدودة" التي وجهها جلالة الملك إلى الجزائر ركيزة أساسية في سياسة المغرب الخارجية، مؤكدة على رؤية المملكة الثاقبة نحو إعادة تأسيس جسور الحوار والتفاهم في المنطقة المغاربية. هذه الرؤية لم تنبع من فراغ، بل هي جزء من استراتيجية متكاملة يتبناها المغرب لإنهاء ملف الصحراء المغربية بشكل نهائي، عبر دبلوماسية قوية وواقعية تعزز من مكانته الإقليمية والدولية.
تُجسد خطابات جلالة الملك دبلوماسية متوازنة تجمع بين الحزم في الدفاع عن السيادة الوطنية والانفتاح على حوار مسؤول يقوم على تجاوز الخلافات المفتعلة التي عرقلت مسيرة التعاون المغاربي. إن الدعوة إلى طي صفحة الماضي وبلورة علاقات تستمد قوتها من تاريخ مشترك تُسهم في تعزيز الأمن والاستقرار والتنمية في المنطقة برمتها.
تعكس "اليد الممدودة" إرادة قوية لإعادة الثقة بين البلدين، مع التأكيد على اعتماد مقاربات عملية وجدية لتحقيق حلول سلمية شاملة للنزاعات، تلبي طموحات شعوب المنطقة في الأمن والازدهار. ويعبر هذا الموقف عن وعي المغرب العميق بأن استقرار الجزائر ركيزة أساسية للأمن والتنمية الإقليمية، وأن فك التوترات القائمة يمثل خطوة ضرورية نحو تعزيز التعاون المغاربي.
تأتي هذه المبادرة ضمن استراتيجية شاملة تهدف إلى إحداث ديناميكية إيجابية في العلاقات الثنائية، تشمل تعميق الحوار السياسي، وتطوير التعاون الاقتصادي، وتعزيز التبادل الثقافي، في إطار رؤية ملكية حكيمة ترى أن قوة الجزائر واستقرارها تصب في مصلحة المنطقة بأسرها. وفي ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها الجزائر، تحمل "اليد الممدودة" رسالة سلام ومصالحة حقيقية، تُعيد الاعتبار للمصالح العليا لشعبي البلدين، وترسي أسس مستقبل مشترك مبني على التفاهم والتعاون البناء. هذا النموذج يمثل قمة النضج والواقعية الدبلوماسية التي ميزت مقاربة المغرب في ملف الصحراء.
في المقابل، تشهد الجزائر تصاعداً في عزلة دبلوماسية متراكمة على المستويين الإقليمي والدولي بسبب مواقفها المتصلبة في قضية وحدتنا الترابية وملف الصحراء المغربية. فقد تراجع الدعم السياسي والتأييد الدولي لمطالبها بشكل ملحوظ، على عكس المكاسب الدبلوماسية الكبيرة التي حققها المغرب من خلال استراتيجية متوازنة تستند إلى الحكمة والواقعية، مما عزز مكانته كفاعل إقليمي محترم وشريك دولي موثوق به. هذه العزلة تعكس ضعف الموقف الجزائري وتآكل نفوذه، حيث أصبح الدعم الجزائري محصوراً في دول ذات وزن سياسي واقتصادي محدود، في حين تتسع دائرة الاعتراف بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، بما في ذلك افتتاح قنصليات دولية في الداخل المغربي.
علاوة على ذلك، تتجلى الأزمة الجزائرية في فقدان مصداقيتها الدولية نتيجة تمسكها بأطروحة تصعيدية وعقيمة، ورفضها للقرارات الأممية التي تدعو إلى تسوية سياسية توافقيّة، ما يجعلها تظهر كطرف يعرقل جهود السلام، على عكس المغرب الذي يلتزم بدبلوماسية البناء والحوار. كما أن استمرار الجزائر في دعم جبهة البوليساريو رغم هشاشة هذه التغطية الدولية يعكس إصرار النظام على استثمار القضية في أزمات داخلية، تنطوي على إدارة فاشلة للموارد وتضييع أولويات التنمية الوطنية.
تأتي الرسالة الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي جدد فيها اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء ودعمها القوي لمقترح الحكم الذاتي كحل وحيد لتسوية النزاع، كخطوة استراتيجية محورية تعكس تحولات عميقة في المشهد الجيوسياسي. هذا التأكيد الأمريكي المتجدد لا يعد مجرد بروتوكول دبلوماسي، بل يُظهر واقعية براغماتية تنطلق من أهمية التوافق والحلول العملية التي تضمن الاستقرار والتنمية.
لقد أسقط إعلان ترامب أن مقترح الحكم الذاتي المغربي "جاد وذو مصداقية وواقعي" مبررات جبهة البوليساريو وداعميها، وأضعف جهود التقسيم والتجزئة السياسية. لقد تطور الدعم الأمريكي من تأييد ضمني إلى شراكات واقعية في المجالات الاقتصادية والتنموية في الأقاليم الجنوبية، ما يجعل من الاعتراف ليس ورقة سياسية عابرة، بل التزامًا استراتيجيًا طويل الأمد يُدمج المنطقة ضمن نسق تنموي شامل، ويحولها من ورقة ابتزاز إلى منصة جاذبة للاستثمار وحركية اقتصادية.
كما يعكس هذا الموقف تطورًا في علاقات المغرب مع الولايات المتحدة التي تقوم على رؤية شاملة للسلام والأمن الإقليميين. وتأتي هذه الخطوة بمثابة دفعة قوية للدبلوماسية المغربية التي وظفت الصبر والحكمة والسياسة الواقعية في طرح سياسة الحكم الذاتي كإطار عقلاني يضمن حقوق سكان الصحراء ويمنحهم هوية وطنية ضمن دولة مغربية موحدة ومتماسكة، كما أنها تؤكد نهاية استغلال ملف الصحراء في الأجندات السياسية التي أدت إلى تأزيم وضع آلاف الصحراويين.
يواجه النظام الجزائري تحدياً نفسياً وسياسياً معقداً يحول دون التراجع عن مواقفه الرافضة، رغم تغير المعطيات الدولية والدبلوماسية التي تؤكد الاعتراف المتزايد بسيادة المغرب على هذا الإقليم.
هذا الحاجز النفسي يتمثل في صعوبة إعلان أي تنازل أمام الرأي العام الجزائري، نظراً لما يمثله النزاع من ملف حيوي للهوية الوطنية والسيادة، ولأن أي إقرار بـ"الانهزام" في هذا الملف قد يهدد تماسك النظام الداخلي، خاصة في ظل الاستقطابات الاجتماعية والسياسية المتزايدة. لا يخفى على الجانب الجزائري أن فشل إدارته لهذه القضية قد يؤدي إلى هبات شعبية أو أزمات قد تصل إلى درجة انهيار النظام، وهو ما تحرص القوى الدولية مثل الولايات المتحدة وفرنسا على منعه لضمان استقرار المنطقة.
في المقابل، يفضل المغرب بقاء النظام الجزائري مستقراً، الأمر الذي يدفعه لاتباع استراتيجية متوازنة تقوم على الحوار والوساطة، متيحاً فرصاً للحفاظ على ماء الوجه للجزائر، بما يقي المنطقة من اهتزازات دراماتيكية ذات تأثير سلبي مشترك. ومع استمرار الضغوط الاقتصادية المتزايدة على الجزائر، الناتجة عن أزمة عميقة تراكمت عبر سنوات علاوة على فقدان الدعم الدولي التقليدي لقضية الانفصال، يتعزز احتمال دخول النظام مرحلة إعادة تقييم لمواقفه، سواء عبر التصعيد للحفاظ على الوحدة الوطنية أو التراجع التدريجي بوساطة دولية ترافقها تسويات اقتصادية وسياسية محتملة.
ينطوي المستقبل على احتمالات متعددة، تبدأ بمناورة سياسية متحفظة تهدف إلى تقليل الانعكاسات الداخلية، وتمتد إلى تغييرات جوهرية في هيكل النظام الجزائري قد تظهر مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. في كل هذه السيناريوهات، يبقى الخيار الأفضل بالنظر إلى مصالح الطرفين والمنطقة هو الحل السلمي الذي يضمن الاستقرار والتنمية، بعيداً عن الانزلاق إلى أزمات مفتوحة قد تعصف بالأمن الإقليمي.
يواجه النظام الجزائري تحديات نفسية وسياسية معقدة تحول دون التراجع عن مواقفه الرافضة، رغم التحولات الكبرى على الساحة الدولية والدبلوماسية التي تُثبت الاعتراف المتزايد بسيادة المغرب على أقاليم الصحراء. يكمن هذا الحاجز النفسي في الصعوبة البالغة التي يواجهها النظام في إعلان أي تنازل أمام الرأي العام، نظراً لما يكتنف النزاع من أبعاد حيوية تتعلق بالهوية الوطنية والسيادة الوطنية. فالإقرار بأي "انهزام" قد يهدد تماسك النظام الداخلي، خاصة في ظل تصاعد الاستقطابات الاجتماعية والسياسية المتعددة.
يعي النظام الجزائري جيداً أن فشله في إدارة هذا الملف قد يؤدي إلى انتفاضات شعبية وأزمات عميقة، قد تصل إلى حد انهيار مؤسسات الدولة. وهو ما تسعى القوى الدولية الكبرى، ومنها الولايات المتحدة وفرنسا، إلى تفاديه حفاظاً على الاستقرار الإقليمي. بالمقابل، يفضل المغرب استقرار النظام الجزائري، ما يدفعه إلى تبني استراتيجية متوازنة ترتكز على الحوار والوساطة، مفسحاً المجال أمام الجزائر لحفظ ماء الوجه، وتفادي زعزعة أمن واستقرار المنطقة.
ومع تزايد الضغوط الاقتصادية على الجزائر، الناتجة عن أزمات تراكمت عبر سنوات، إضافة إلى فقدان الدعم الدولي التقليدي لقضية الانفصال، تتعزز فرص دخول النظام في مرحلة إعادة تقييمٍ لمواقفه. قد يتم ذلك إما من خلال تصعيد سياسي يهدف إلى الحفاظ على الوحدة الوطنية، أو عبر تراجع تدريجي مدعوم بوساطات دولية وحلول اقتصادية وسياسية توافقية محتملة.
وتأتي سنة 2025 كعام مفصلي وحاسم في هذا الملف، حيث تتجه الأنظار إلى فرص طي النزاع بشكل نهائي عبر مفاوضات ترتكز على مبادرة الحكم الذاتي تحت إشراف الأمم المتحدة، وسط تراجع ملحوظ للدعم الدولي لجبهة البوليساريو، مما يمهد الطريق نحو تحقيق استقرار دائم وسيادة كاملة للمغرب على صحرائه.
يحمل المستقبل احتمالات متعددة، تبدأ بمناورات سياسية تحرص على التخفيف من آثار الأزمة داخلياً، وتمتد إلى تغييرات جوهرية في بنية النظام الجزائري قد تتكشف مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وفي جميع السيناريوهات، يظل الحل السلمي هو الخيار الأمثل، بما يخدم مصالح الأطراف كافة ويضمن استقرار المنطقة وتنميتها، ويجنّبها الانزلاق نحو أزمات مفتوحة قد تعصف بالأمن والسلام الإقليمي.
تؤكد استراتيجية المغرب لإنهاء ملف الصحراء على أن الحل يكمن في الواقعية والتعاون، لا في المواقف المتصلبة والنزاعات المفتعلة. لقد أثبتت المملكة من خلال سياستها الحكيمة أنها فاعل إقليمي موثوق به، وشريك استراتيجي في بناء الأمن والتنمية. وفي ظل هذه التحولات، يبقى الخيار الأمثل هو أن تدرك الجزائر أن مصلحتها الحقيقية تكمن في التعاون مع جيرانها، ووضع مصالح شعبي البلدين فوق كل اعتبار، لبناء مستقبل مغاربي مزدهر يسوده الأمن والاستقرار.
أخبار متعلقة :