الحرب التجارية الشاملة وفرض قيود أكثر صرامة على الاستثمار عبر الحدود سيهددان الجميع
يبدو أن عقد العشرينيات من القرن الحالي يسير نحو أن يكون عقداً ضائعاً، على الأقل من حيث النمو الاقتصادي.
وهذا سيؤثر بشكل خاص على الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية في المدى القريب، لكنه سيجعل الجميع في وضع أسوأ، لا سيما من خلال تقويض الجهود العالمية لمكافحة التغير المناخي.
إن أوجه التشابه مع ثلاثينيات القرن الماضي، عندما واجه العالم صدمة اقتصادية كبرى وتصاعدت سياسات الحمائية التجارية وتنامت النزعة القومية وضعفت التعددية، تجعل الوضع يبدو أكثر تهديداً.
حينها، كما هو الحال الآن، كانت الجغرافيا السياسية هي العامل الحاسم.
على مدار فترة طويلة، يتزايد رد الفعل العكسي ضد العولمة.
ومع ذلك، فقد صمدت التجارة العالمية بشكل جيد حتى الآن، و حافظت على نسبة مستقرة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي منذ بداية العقد، بحسب موقع “بروجكت سنديكيت”.
وبينما أصبحت سلاسل القيمة العالمية أطول، إلا أنها لم تشهد تغيراً جذرياً بعد.
لكن مع فرض تعريفات جمركية واسعة النطاق على الشركاء التجاريين، والردود الانتقامية المصاحبة، فإن مزيداً من التشرذم في التجارة وتدفقات الاستثمار يبدو أمراً محتوماً.
تعاني الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية بالفعل من ضغوط كبيرة، ما يجعلها أكثر عرضة للخطر.
فلا تزال آثار جائحة “كوفيد-19” تعرقل النمو، وأسعار الفائدة العالمية تنخفض بوتيرة أبطأ من المتوقع، بينما يواصل الدولار الأمريكي قوته، وبالنسبة للعديد من الدول النامية، أصبحت تكاليف خدمة الدين عند مستويات غير مستدامة.
وفي الوقت ذاته، تتحمل هذه الدول وطأة أزمة مناخية تتفاقم بسرعة، رغم أنها لم تكن المتسبب الرئيسي فيها.
وتستعد الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية لمزيد من الاضطرابات. فرغم أن التحولات في سلاسل القيمة العالمية وتدفقات رأس المال قد تخلق فرصاً لبعض الدول، فإن اندلاع حرب تجارية شاملة وفرض قيود أكثر صرامة على الاستثمار عبر الحدود سيؤثران سلباً على الجميع تقريباً.
وتعتمد هذه الدول اعتماداً كبيراً على الوصول إلى رأس المال والتكنولوجيا الأجنبية لدفع عجلة النمو وتحقيق أهداف إزالة الكربون.
وأظهرت أبحاث البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، أن التجارة العالمية في التقنيات منخفضة الكربون شهدت نمواً سريعاً خلال السنوات الأخيرة، إلا أن معظم هذا التبادل يتم بين الاقتصادات المتقدمة، التي تصدر القليل من هذه التقنيات إلى الدول النامية.
ورغم ارتفاع مستوى التجارة بهذه التقنيات بين الأسواق الناشئة، خصوصا مع كون الصين المورد الأساسي لها، فإن ذلك لا يكفي لدعم النمو أو تحقيق إزالة الكربون على نطاق واسع.
في الوقت نفسه، تؤثر القيود التجارية المتزايدة على تقنيات منخفضة الكربون ليس فقط على الصين، بل أيضاً على مجموعة أوسع من الأسواق الناشئة، مما يحد من قدرتها على الوصول إلى أسواق التصدير الرئيسية.
في حين أن بعض الدول النامية بدأت بدمج إنتاج التقنيات منخفضة الكربون في استراتيجيات نموها، فإن نجاح هذه الجهود يعتمد بشكل كبير على الوصول إلى مزيد من التكنولوجيا الأجنبية ورأس المال الأجنبي.
كما أن الأسواق الناشئة، التي تلعب دوراً رئيسياً في التحول العالمي نحو الحياد الكربوني، ستواجه صعوبات في إزالة الكربون من صناعاتها ما لم تستطع الاستفادة من أحدث الابتكارات.
إن أي تباطؤ في تحقيق إزالة الكربون قد يهدد قدرتها على الوصول إلى أسواق تصدير رئيسية، مثل الاتحاد الأوروبي، الذي بدأ بالفعل في تنفيذ آلية تعديل حدود الكربون.
وقد يؤدي مزيد من الاضطرابات في سلاسل القيمة العالمية إلى تقويض جهود إزالة الكربون بطرق أخرى.
فمن حيث المبدأ، تعمل سلاسل القيمة العالمية كنظم حوكمة، إذ تضع الشركات الرائدة المعايير وتشرف على تنفيذها في مختلف مراحل الإنتاج والتوزيع.
إن تقليل الانبعاثات عبر جميع هذه المراحل هو ما يساعد في خفض البصمة الكربونية الإجمالية لهذه السلاسل، لكن إذا تضررت هذه النظم، فإن جهود إزالة الكربون ستتضرر أيضاً.
علاوة على ذلك، فإن الأسواق الناشئة ستصبح أكثر تحفيزاً لخفض انبعاثاتها إذا رأت أن لديها فرصاً لجذب الاستثمارات الأجنبية في القطاعات الخضراء، مثل الطاقة المتجددة والنقل منخفض الكربون، والتي يمكن أن تخلق وظائف جديدة وتعزز النمو.
غير أن تفكك سلاسل القيمة العالمية بدوافع جيوسياسية سيقلل بشكل كبير من هذه الفرص.
على مدار العقود الأخيرة، وسعت الأسواق الناشئة بشكل كبير دورها في سلاسل القيمة العالمية. (ورغم أن الصين كانت الرائدة في هذا المجال، خاصة في إنتاج السلع الوسيطة، فإنها ليست الدولة الوحيدة)، لكن عندما تسببت جائحة “كوفيد-19” في تعطيل التجارة، كانت الدول التي دخلت سلاسل القيمة مؤخراً هي أول من أُجبر على الخروج، وقد يكون للأزمة التجارية الجديدة، الناجمة عن موجة من التعريفات الانتقامية، تأثير مماثل.
لكن هذه المرة، قد تكون العواقب طويلة الأمد، فبينما سارعت الاقتصادات النامية للعودة إلى سلاسل القيمة بمجرد تعافي التجارة بعد صدمة الجائحة، فإن الثقة التي تعتمد عليها هذه السلاسل قد لا تصمد أمام حرب تجارية جديدة، مما يعني أن التعافي من الاضطرابات القادمة قد يكون أكثر صعوبة.
وعلى عكس ثلاثينيات القرن الماضي، قد لا يؤدي هذا العقد الضائع إلى كساد اقتصادي حاد أو اندلاع حرب عالمية (على الأقل هذا ما نأمله).
لكن من شبه المؤكد أنه سيؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وتقويض الجهود العالمية لمكافحة التغير المناخي، وستكون الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية هي الأكثر تضرراً من هذا الوضع.
أخبار متعلقة :