يبدو أن في داخل عقولنا وقلوبنا وبطوننا وحشًا نهمًا لا يشبع من وجبتين أساسيتين، هما الوعظ والخرافات. لذلك، لا تكفينا مواعظ رجال الدين، ونحتاج إلى مواعظ من فئات أخرى، على رأسها الفنانون، ويا حبذا لو جاءت هذه العظات على شكل قطايف. أما الخرافات، فهي شهية جدًا، والكل يهجم عليها وكأنها خروف محمر ومشمر، يسر العين، ويسعد المعدة، ويغذي المفاصل.
وفي رمضان، نجد الدراما تقدم وجبات عامرة من خروف الخرافة، يأتي على رأسها مسلسل المداح، الذي يبدو أنه بلا نهاية، فهذا هو الجزء الخامس، والذي يقدم عالمًا من الجن والعفاريت يكفي لكي "تلبس" المجرة. يواجهها الأستاذ حمادة هلال بمفرده، فيرعب العفاريت ويهزمها، بينما هي تهزم مجتمعنا الذي ما زال يخاف منها. ولم يبقَ إلا أن "تلبسه"، وهو عريان من العقل والفكر والسؤال.
والغريب أن صناع الدراما لم يكتفوا بوجود العفاريت المتعددة في مسلسل واحد، فتناثر نشر الخرافات ودعمها وتأكيد وجودها في أعمال أخرى، منها مسلسل حكيم باشا لمصطفى شعبان، والذي لا أدري لماذا سُمِّي بهذا الاسم، خاصة أن لقب "حكيم باشا" ارتبط بوصف الأطباء، ونقابتهم تُسمَّى "دار الحكمة". ولكن يبدو أن ذلك سببه سيل الحكمة المسجوعة التي تهطل من لسان مصطفى شعبان، وينافسه فيها ابنة عمه برنسة.
والغريب، وأنا رجل صعيدي، أنني لم أجد أو أسمع عن كبير يردد كلامًا مسجوعًا، ويصنع أمثالًا شعبية، غير عازف الربابة، لا كبير القوم! المهم، أن هذا المسلسل يدعم الخرافة بتقديم شخصية العمة جلالة، تقوم بدورها سلوى خطاب، وهي سيدة حسودة قتلت ابن ابنتها بنظرة عين، والكل يخاف منها لدرجة أن "الكبير الحكيم" أقام مزرعة الخيول في القاهرة لتنجو من شر عينيها. ولا أدري لمصلحة من يتم تكريس هذه الخرافة في عصر الذكاء الاصطناعي.
وعلى الرغم من النجاح المذهل الذي حققه مسلسل أشغال شقة جدًا، والذي رطب علينا بكوميديا راقية، إلا أنه -وللأسف- وقع في هذا الفخ لدعم الخرافات. وهنا، لا فرق بين متعلم وجاهل، إذ يسقط الطبيب الشرعي هشام ماجد وزوجته الإعلامية أسماء جلال في شرك الشغالة، التي تقنعهما بالسحر والأعمال، وتصنع له عملًا، فيصاب بالعمى!
أنت لن تجد عملًا دراميًا عن فيلسوف أو أديب مثل نجيب محفوظ، أو طبيب بارع مثل مجدي يعقوب، أو عالم فيزياء مثل أحمد زويل، لأننا ما زلنا -وفي ظل هذا الذكاء الاصطناعي المتجدد كل يوم، بل كل لحظة- نطارد العفاريت مع المداح، ونخشى أن تصيبنا عين جلالة، ويُعمي عقولنا "عمل" التخلف.
أفيه قبل الوداع:
"هوه سيدنا سليمان مات؟"
"أهيء أهيء!"
"كفاية، متبكيش، متبقاش عفريت خرع أمال!"
(إسماعيل ياسين، الذي ما زال يضحكنا في فيلم الفانوس السحري.)
أخبار متعلقة :