في مشهد لا يليق إلّا بأفلام الويسترن الرخيصة، دخل المبعوث الأميركي توم باراك إلى قصر بعبدا وكأنّه يعتلي حصانًا أبيض، لا ليلتقي رئيس الجمهورية جوزاف عون وحسب، بل ليقدّم للصحافيين اللبنانيين دروسًا عاجلة في فنون “التهذيب واللياقة”. باراك، الذي انزعج من بعض الفوضى الطبيعية في مؤتمر صحافي مزدحم، قرّر أن يلجأ إلى قاموسه الحضاري العريق: فهدّد بإنهاء المؤتمر إذا لم “يهدأ” الصحافيون ويتوقفوا عن التصرّف “بشكل فوضوي وحيواني” — نعم، هكذا بكل بساطة، كأنّه في مزرعة في تكساس. من الواضح أن الرجل لم يدرك أنّ القصر الجمهوري ليس “حانة” في الغرب الأميركي، وأنّ الصحافيين ليسوا كتيبة من الكاوبويز الخارجين عن القانون، بل هم مواطنون يحاولون العمل وسط ضجيج سياسي لا يقلّ فوضوية عن تصريحاته. العنجهية الأميركية إذًا لم تعد تكتفي بترسيم الحدود والوصاية على القرارات السيادية، بل امتدت إلى طريقة جلوس الصحافي اللبناني وحركة يديه وصوته. ما ينقصنا فعلًا هو أن يبدأ الموفد في توزيع “قبّعات الكاوبوي” على الصحافيين مع كل زيارة، ليتأكد أنّنا نتصرّف وفق قواعد الغرب المتحضّر!!. ردود الفعل الغاضبة لم تتأخر، إذ خرجت أصوات صحافية وشعبية عبر وسائل التواصل ترفض هذا التطاول المهين. نقابة محرري الصحافة استنكرت بشدّة المعاملة غير اللائقة التي تعرّض لها الإعلام اللبناني من براك، وأسفت في تصريح “لأن يصدر عن مبعوث دولة كبرى توصيف لتصرّف الصحافيين في القصر الجمهوري بأنه حيواني”. وطالبت براك ووزارة الخارجية الأميركية بإصدار بيان اعتذار علني إلى الجسم الإعلامي اللبناني. واكدت ان”تجاهل مطلبنا قد يدفعنا إلى اتخاذ خطوات تصعيدية ومقاطعة زيارات واجتماعات الموفد الأميركي”. ورغم فظاعة ما صدر عن براك وردود الفعل الغاضبة من الجسم الصحفي تجاهه، اكتفت رئاسة الجمهورية بإبداء أسفها للكلام الذي صدر “عفواً” كما قالت من عن منبرها من قبل من وصفته ب “أحد ضيوفها” دون تسميته في إشارة إلى براك. من جهته، استنكر مجلس نقابة العاملين بالإعلام المرئي والمسموع تصريحات براك التي وُصف فيها الإعلاميون اللبنانيون بالحيوانيين، واضاف ان”استخدام قصر بعبدا كمنصة للإهانات إساءة للسيادة اللبنانية”. رندلى جبور نقيبة العاملين في الاعلام المرئي والمسموع في لبنان رندلى جبور علقت على الموضوع في تصريح لموقع المنار بالقول:”ما حصل اليوم في قصر بعبدا يُعد أولاً إهانة للقصر الجمهوري، لأن أي إساءة تصدر تجاه أي شخص من داخل مكان ما هي في الأساس إهانة لذلك المكان، فإذا كانت الإهانة موجّهة للقصر الجمهوري، فهذا يعني أنها موجّهة إلى رأس الدولة اللبنانية، وبالتالي إلى لبنان بأكمله”. واضافت:” من غير المقبول أن يتعامل أي شخص أجنبي مع الإعلاميين والصحافيين على الأرض اللبنانية بهذه الطريقة. نحن لا نقبل ذلك حتى من القريبين أو من أبناء الوطن، فكيف يمكن أن نقبله من شخص غريب، من موظف أمريكي؟ هذه إهانة للقصر الجمهوري، وللبنان ككل، وللجسم الإعلامي في لبنان، الذي لا يحق لأحد أن يهينه أو يتطاول عليه بهذا الشكل”. وتابعت:”على أي حال، هذا التصرف يدل على شخصية توم براك التي تفتقر إلى احترام الآخر، ويعكس تعالي الولايات المتحدة الأمريكية وهيمنة الفكر الصهيوني عليها، ذلك الفكر الذي يعتبر الآخرين مجرد “حيوانات بشرية” يجب أن يكونوا في خدمتهم، وهو ما يعرف بمفهوم “الغوييم”. ويبدو أن توم براك مسكون بهذا الفكر الصهيوني الذي يقلل من قيمة أي إنسان غير صهيوني. لقد أُهين لبنان، ويجب التعامل مع الأمر على هذا الأساس”. بيار أبي صعب في تصريح لموقع المنار، تساءل الكاتب السياسي والصحافي بيار أبي صعب :”ما الذي يمكن أن يكون أكثر طبيعية مما حصل اليوم في قصر بعبدا؟ أنا مستغرب من استغراب الناس. أنتم صنعتم صنمًا، جعلتموه بطلًا، حامل مفاتيح الحل والخلاص. الإعلام الإبراهيمي، الإعلام المموّل من أنظمة الخيانة والاستسلام، صنع منه بطلًا؛ قبل أسبوع من قدومه وبعد أسبوع من مغادرته”. وأضاف:”الحكومة تتصرف بعشوائية، والإعلام يطبّل له. لبنان بأكمله كأنه خضع، باستثناء الشرفاء الذين هم الأكثرية. لكن جزءًا كبيرًا من النخب انحنى له. فجاء ليتعامل مع الجميع باحتقار، احتقار الرجل الأبيض الذي يدّعي أنه يعلّمك النظام، الحضارة، والديمقراطية. هذا ما يفعله المستعمر دائمًا: يزعم أنه يثقفنا، يوعّينا، ويحضّرنا”. ولفت أبي صعب إلى” أن أحدهم سأل السيناتور ليندسي غراهام: هل يمكن لإسرائيل أن تساعد لبنان؟! أيّ سؤال هذا؟ هذه النخب خاضعة، مدجّنة، صُناعة الإذعان والخضوع ، هذا عمل مستمر عبر منظمات غير حكومية، إعلام ممول، أيديولوجيا موجّهة، وأجندات تُزرع في نخب مستلبة ترى في الغرب والرجل الأبيض باب الحضارة والرخاء والنجاح”. وتابع :”ثم يأتي هذا الكاوبوي، حاملًا إملاءات إسرائيلية يريد فرضها، وهو نفسه جزء من منظومة سياسية في بلاده تمثّل الرأسمالية المتوحشة ولوبيات التطوير العقاري والمصالح الاقتصادية،إنه تجسيد لوقاحة الرجل الأبيض الذي يظن نفسه المخلّص، والواقع أنّه رمز لضعف نخبنا وخضوع سلطتنا. النظام اللبناني بكل وسائطه خاضع بالكامل، والإعلام مخادع بالكامل. لذلك يشعر هذا الرجل أنه في موقع السيد”. ويبقى السؤال: إذا كان هذا مستوى الدبلوماسية الأميركية مع صحافيين في مؤتمر علني، فكيف يكون مستوى “الاحترام” في الكواليس المغلقة؟ لكن لا بأس. فالتاريخ يعلّمنا أن الكاوبوي، مهما أشهر مسدّسه وصوته العالي، ينتهي دائمًا بالسقوط عن حصانه. المصدر: موقع المنار