في مملكة المرايا المعتمة ليس الإعلامُ كما يبدو في الظاهر؛ فذاك الذي يُسمّى "السلطة الرابعة" لم يعد مرآةً تعكس، بل صار يحدّد ملامح الوجوه ذاتها، يرسمها كما يريد، ويصنع الأقنعة وفق المقاسات المطلوبة. في البدء كان الصوتُ ملكًا للأفكار، للكلمة الحرة، للمعنى الذي يصرخ في وجه الطغيان. أما اليوم، فقد صار الصوتُ نفسه سلعةً معروضة، يُباع ويُشترى في أسواق السرد الموجَّه، حيث تتداخل الحقيقة مع الكذب، وتتماهى الوقائع مع الأوهام. الإعلامُ في زمننا هذا لم يعد وسيلةً للتنوير، بل صار ماكينةً ضخمةً لصناعة الرأي العام، بلغةٍ ناعمةٍ أحيانًا، أو خطابٍ صارخ أحيانًا أخرى، لكنه في الحالتين، يُعيد صهر الجماهير في قوالب جاهزة، يجعلهم يتقنون فنَّ الاستهلاك، يبلعون الأفكار كما تُبتلع الحبوب المُهدئة. هناك في الكواليس، عقولٌ خفيّة تُدير الخيوط، تُحرك الدمى على مسرحٍ كبير، والجمهور يُصفّق، لا لأنه مقتنع، بل لأنه مُنَوَّم، مُبرمَج، مفرغٌ من الشكّ، محشوٌّ باليقين المصنّع. الإعلامُ اليوم يُحوّل الأفراد إلى قطع غيار في آلةٍ ضخمة تسمّى "الجمهور"، يسوّيهم، يجمّلهم، أو يقبحهم، يُعلّمهم أن يروا العالم بعينٍ واحدة، هي عينُ الموجّه لا عينُ المُشاهد. يُقال "الرأي العام"... لكن أيُّ رأيٍ هذا؟ ومن هو "العام" أصلًا؟ هو رأيٌ يُصنع في دهاليز غرف التحرير، ويُعبّأ في علبٍ جاهزة، يُوزّع مع قهوة الصباح أو مع نشرة المساء، ويُحقَن في العقول كما تُحقن الأجساد باللقاحات، لكن ليس ضدّ المرض، بل ضدّ التفكير. الإعلام هو مرآةٌ مقلوبة، كلّما نظرتَ فيها، ظننتَ أنك ترى نفسك، لكنك في الحقيقة ترى الصورة التي أرادوا لك أن تراها. هو بحرٌ من الموج المُزيّف، لا قرارَ له، كلّما غصتَ فيه، سُحبتَ إلى الأعماق، لا لتجدَ الحقيقة، بل لتُبتلع في فقاعة التكرار. إنه حارسُ المعبد، ومهندسُ الزنازين، هو الذي يقنعك أنّ القيد هو زينة، وأنّ السجن هو وطنٌ صغير. في عصرٍ كهذا، لم يعد الرأي العام صوتَ الناس، بل صار صدى السلطة، صدى المال، صدى الشركات العابرة للقارات، وصار الفردُ هو آخر من يملك رأيه، وآخر من يُسمع صوته. في مملكة المرايا المحدبة، يُصنَع الرأي كما تُصنَع الأحلام في المصانع، وتُوجَّه العقول كما تُوجَّه الأغنام نحو المسلخ، ويُعاد تدوير الحقيقة حتى تصبح نُكتةً قديمة لا يضحك عليها أحد. الإعلام، بشتعب فروعه وألوانه، يمثل بوصلةً ضمنية للوعي الجمعي، لا تحدد اتجاهاته فحسب، بل تُمهد له المسار وتُشكل تضاريسه. هو الأداة التي من خلالها تُغذى الأذهان بالمعلومات، ولكن الأهم، هي الكيفية التي تُقدم بها هذه المعلومات. فالخبر ليس مجرد حقيقة مجردة، بل هو سردٌ مُنتقّى، مُنسّق، ومُعبأ بدلالات خفية. في هذا السياق، يصبح التوجيه عمليةً لا واعية، حيث تُبث رسائل معينة في ثنايا الكلمات والصور والأصوات، لتترسخ في اللاوعي الجمعي وتُشكل قناعاته في هذا السياق الفلسفي والسياسي العميق، تتجلى رمزية الإعلام في كثافتها وتأثيرها. إنها رمزية السلطة الخفية التي لا تفرض بالسيف والقوة، بل تُسيطر على العقول بالكلمة والصورة والإيحاء. يصبح الإعلام بذلك أداة للحاكمية الرمزية، تُعيد تعريف الصواب والخطأ، الجمال والقبح، الخير والشر، بما يخدم سرديات معينة ومصالح كامنة. إنه يُمارس نوعًا من السيطرة التي تُصبح مُتخفية، تتغلغل في النسيج الاجتماعي دون أن يشعر بها الكثيرون. هذا التنميط ليس مجرد عملية عابرة، بل هو بناء هيكلي للوعي، يُشكل الأفراد والمجتمعات وفق قوالب جاهزة، تُعيق التفكير النقدي وتُشجع على التذويب في التيار العام. في الختام، إن العلاقة بين الإعلام والرأي العام هي علاقة جدلية معقدة، لا تخلو من المفارقات. فالإعلام، الذي يُفترض أن يكون منبرًا للحرية والتعبير، قد يُصبح في أحيان كثيرة أداةً للسيطرة والتلاعب. فهل يمتلك المتلقي القدرة على فك شيفرة الرسالة الإعلامية، أم يبقى أسيرًا لسحرها الرمزي؟