في الأيام الأخيرة، تصدّرت أخبار الصراع حول وراثة رئاسة الزاوية القادرية البودشيشية واجهة النقاش الديني والاجتماعي بالمغرب، بعدما توفي الشيخ مولاي جمال الدين القادري البودشيشي عن عمر ناهز 83 سنة تاركا إرث طويل في التصوف والتعليم الروحي وفق وصية مكتوبة منذ عقود أعلن أن الأمانة الروحية ستنتقل إلى ابنه لكن المفاجأة جاءت عندما تنازل الأخير بدوره عن المشيخة لأخيه، مؤكدًا أن المشيخة تكليف وليست تشريف ومناشدًا المريدين بالتمسّك بالوحدة بعيدًا عن الجدل. هذا الصراع الوراثي يعكس أزمة أعمق تواجهها الزوايا المغربية اليوم إذ لم تعد الشرعية الروحية وحدها هي الأساس بل صار موقع الزاوية مرتبطًا بالمصالح السياسية والاقتصادية والريع الرمزي. في المغرب المعاصر لا يقتصر الأمر على الصراعات داخل الزوايا القديمة، بل نشهد أيضًا ظهور زوايا جديدة تسعى للمنافسة على النفوذ المالي والظهور الإعلامي، وغالبًا ما يكون هذا التنافس على حساب الشرعية الروحية. هذه الزوايا الجديدة تركز على الدعاية استقطاب الدعم الرسمي وتنظيم الفعاليات الرمزية بما في ذلك المخيمات والملتقيات الصيفية للأطفال بينما الزوايا التقليدية بدأت تفقد شعبيتها تدريجيا إذ انتقل بعضها من منصات التعليم والإرشاد إلى مواقع بروتوكولية وأعمال رمزية. منذ قرون، شكّلت الزوايا الصوفية في المغرب إحدى أهم المؤسسات الروحية والاجتماعية، حيث كانت فضاءات للتربية الدينية، والتكوين العلمي، وبث قيم التضامن، وإيواء المحتاجين، إضافة إلى دورها في توحيد المجتمع حول ثوابت روحية وأخلاقية متينة. لكن الواقع الراهن يكشف عن تحوّل مقلق، إذ لم تعد أغلب هذه الزوايا تحافظ على رسالتها التاريخية، بل انزاحت تدريجيًا نحو أدوار نفعية وريعية، مرتبطة أكثر بالمصالح السياسية والاقتصادية، وبعيدة عن عمقها الروحي. الإحصاءات الرسمية تشير إلى أن المغرب يضم أكثر من 5038 ضريحًا و1496 زاوية، بينما تقديرات سنة 2018 رفعت الرقم إلى حوالي 7033 ضريحًا وزاوية. هذا الانتشار الواسع، الذي يفترض أن يكون دليلًا على قوة الحضور الروحي، لا يعكس بالضرورة نشاط فعلي أو تأثير اجتماعي كما في السابق. فالكثير من هذه المؤسسات تحوّل إلى أماكن مغلقة تقتصر على استقبال الزوار في المناسبات، دون أن تقدم برامج تعليمية أو أنشطة اجتماعية كما كان يحدث في عصورها الذهبية. الدعم الرسمي الموجه لهذه الزوايا ليس بالأمر الهامشي، إذ تُقدَّر الهبات السنوية التي تُوزَّع على شيوخها ومريديها بأكثر من 15 مليار سنتيم ، تُمنح في الغالب في مناسبات دينية ووطنية ورغم هذا السخاء المالي، فإن المردود العملي على المستوى الروحي والاجتماعي ضعيف، حيث تميل بعض الزوايا إلى توظيف مواردها لتعزيز مكانتها في منظومة النفوذ التقليدي بدل استثمارها في التعليم أو العمل الخيري. التحول اللافت هو فقدان الزوايا لدورها كمدارس للتربية الروحية والانفتاح الثقافي، وتحولها إلى مؤسسات مغلقة على طقوس محددة، غالبًا ما تمارس في عزلة عن المجتمع. لم تعد حلقات الذكر والدروس الدينية تشكل جوهر نشاطها، بل أصبحت بعض الزوايا واجهة لشرعنة النفوذ، وحفظ علاقات المصالح مع الدولة، أكثر من كونها فضاءات لإصلاح القلوب والعقول. ويذهب بعض الباحثين إلى أن هذا التغير أفقد الزوايا هيبتها، وجعلها أقرب إلى رموز فولكلورية تُستحضر في المهرجانات والمواسم الدينية، بدل أن تكون منابر حيّة للتأطير الروحي. تداعيات هذا التحول واضحة. أغلب الدراسات أثبتت ان نسبة المغاربة الذين زاروا الأضرحة أو الزوايا انخفض بشكل مهول، في إشارة إلى تراجع الارتباط الشعبي بهذه المؤسسات. كما أن ذاكرة المجتمع حول الأولياء وكراماتهم بدأت تتآكل، لتبقى الطقوس الممارسة غالبًا شكلية فاقدة للروح والمعنى. ومع هذا التراجع، تزداد المسافة بين الزوايا والمجتمع، ما يهدد بتلاشي دورها التاريخي. اليوم، إذا كان المغرب حريصا على الحفاظ على إرثه الروحي، فإن المطلوب هو إعادة تأهيل الزوايا لتستعيد رسالتها الأصلية. يجب أن تتحول هذه المؤسسات من فضاءات مغلقة إلى مراكز مفتوحة للتعليم والتكوين والإرشاد، تستثمر الدعم المالي في مشاريع تنموية روحية واجتماعية حقيقية، وتحيي الذاكرة الدينية الشعبية بما تحمله من قيم التضامن والتهذيب النفسي. كما أن إعادة ربط الزوايا بالمجتمع، بعيدًا عن الحسابات الريعية، هو السبيل للحفاظ على هذا التراث حيا وفاعلا، بدل أن يتحول إلى مجرد طقس بلا روح. إن الزوايا الصوفية، التي شكلت لعقود أحد أعمدة الهوية المغربية، تقف اليوم على مفترق طرق: إما أن تعود إلى دورها كمؤسسات للإصلاح الروحي والاجتماعي، أو أن تواصل انزلاقها نحو الريع الرمزي، لتصبح مجرد معالم تراثية تتآكل مع مرور الزمن. الاختيار هنا ليس رفاهية، بل ضرورة لحماية أحد أهم مكونات الذاكرة الجماعية المغربية.