تتزايد المؤشرات على قرب المواجهة بين الأكراد والحكومة السورية في دمشق، لا سيما بعد مؤتمر الحسكة الأخير (9 آب/أغسطس 2025) الذي جمع العديد من الشخصيات السورية الكردية والدرزية، والذي اعتُبر انقلابًا على الاتفاق الذي أبرمه قائد الوحدات الكردية مظلوم عبدي مع الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، نظرًا لما حمله من دلالات ونوايا انفصالية، بحسب ما ترى السلطات السورية في دمشق.
ولطالما اتسمت العلاقة بين الطرفين بالحذر والتوجس، لكنها تبدو اليوم متجهة نحو صدام عسكري، خصوصًا مع سعي حكومة دمشق للسيطرة على منابع النفط في دير الزور والسدود المائية على نهر الفرات، لتأمين احتياجات المناطق السورية المختلفة، في ظل تردي الوضع الاقتصادي، وعدم وفاء الحلفاء الجدد لدمشق بالوعود المالية التي قطعوها منذ سقوط النظام في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي.
وفي هذا السياق، ظهرت تسريبات عن خطة أمريكية تقضي بأن تعيد “قسد” دير الزور إلى سلطة دمشق، مقابل اعتراف حكومة الشرع بالسيطرة الكردية على الحسكة والرقة وسائر مناطق الشمال الشرقي السوري الخاضعة لهيمنة الوحدات الكردية.
في المقابل، ترى تركيا أنه من الضروري إنهاء الوجود العسكري الكردي في تلك المناطق، بالتزامن مع مساعيها لإغلاق ملف الأكراد نهائيًا، خاصة بعد إعلان “حزب العمال الكردستاني” إلقاء السلاح والدخول في عملية سياسية سلمية مع السلطات التركية.
وحرّك التوغل الإسرائيلي في الداخل السوري، وتوغله في مناطق واسعة من الجنوب، مساعٍ تركية لتنفيذ عملية عسكرية في الشمال السوري ضد ما تعتبره تهديدًا كرديًا لأمنها القومي.
وقد تحدثت قبل أسابيع مصادر تركية عن نية أنقرة الدخول في مواجهة مع الأكراد بالتنسيق مع القوات السورية، إذا لم تلق الوحدات الكردية سلاحها، ولم تلتزم باتفاق الاندماج مع دمشق الموقع في آذار/مارس الماضي.
هذه الظروف تلقي بظلالها على حكومة الشرع، فهو من جهة يسعى إلى تحقيق الأمن القومي التركي عبر محاصرة الأكراد ودفعهم إلى الدخول ضمن إطار السلطات الجديدة، ومن جهة أخرى يتجنب الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة مع الأكراد، لما قد يترتب عليها من إزعاج مباشر للولايات المتحدة، الحليف الاستراتيجي لـ”قسد” في سوريا، والتي تضمن عبر هذه العلاقة وجود قواعد عسكرية لها داخل الأراضي السورية، بالإضافة إلى تدخل عسكري إسرائيلي محتمل على غرار ما حصل في أحداث السويداء.
وفي خضم هذه التعقيدات، يبرز التهديد الإسرائيلي الذي يحول دون أي حسم عسكري لملف الأكراد في سوريا، لا سيما وأن العديد من المسؤولين الإسرائيليين قد صرحوا في السابق بوجوب دعم الأكراد في سوريا، والسعي لإنشاء كيان مستقل لهم.
في المقابل، تخشى تركيا من انخراط الاحتلال الإسرائيلي في هذا الملف عبر تحريض الوحدات الكردية على القتال، وبالتالي تهديد الأمن والاستقرار على حدودها الجنوبية.
وتشير تقارير سورية مقربة من دمشق إلى وجود جناحين متصارعين داخل “قسد”: الأول يتجه نحو المواجهة العسكرية مع القوات السورية ويرفض الاتفاق الذي جرى في 10 آذار/مارس بين عبدي والشرع، فيما يدفع الجناح الآخر باتجاه الانخراط في عملية سياسية سلمية مع السلطات السورية، على غرار ما فعله حزب العمال الكردستاني في تركيا.
وتذهب تقارير سورية أخرى إلى أن “قسد” تسعى أصلًا إلى معركة، أملًا في الحصول على دعم إسرائيلي وغربي يضمن لها حماية دولية، إذ ترى أن مثل هذه المواجهة ستوفر لها فرصة لاستدرار التعاطف الدولي، خاصة وأن أي دخول لقوات دمشق إلى مناطق كردية قد يرافقه – بحسب هذه التقارير – انتهاكات ضد المكوّن الكردي، وهو ما سيمنح “قسد” الضمانة الدولية التي تبحث عنها، ويفتح أمامها باب الحكم الذاتي.
ويبقى السؤال المطروح: هل يتكرر مشهد السويداء في شمال شرق سوريا، أم أن الولايات المتحدة تعيد رسم خريطة النفوذ والسيطرة في تلك المناطق بطريقة تضمن للطرف الكردي وللسلطة في دمشق مكاسب متبادلة؟
وفي الميدان، شهدت مناطق ريف دير الزور والرقة تجددًا للاشتباكات العنيفة بين “قسد” وقوات عشائرية، إضافة إلى عناصر من الأمن العام السوري، في بلدات غرانيج والكشكية وأبو حمام وهجين، ومن جهة قرية المغلة قرب مدينة معدان، وعند أطراف قرية “البوحمد” في ريف الرقة. وتأتي هذه التطورات بعد مواجهات مماثلة شهدتها قبل أيام مناطق في مدينة دير الزور، وريفي الحسكة وحلب، أسفرت عن مقتل عدد من عناصر الطرفين.
وسبقت هذه الأحداث زيارة وفد سوري رفيع المستوى إلى أنقرة الأربعاء الماضي، ضم وزراء الخارجية أسعد الشيباني، والدفاع مرهف أبو قصرة، ورئيس جهاز الاستخبارات إبراهيم سلامة، حيث جرى خلالها مباحثات مع مسؤولين أتراك حول ملفات سياسية وأمنية، كما تم توقيع مذكرة تفاهم عسكرية تشكل خطوة نحو شراكة أمنية دائمة بين الجانبين، في مؤشر على تنسيق متزايد في ملف الشمال السوري.
في ظل التعقيدات الراهنة، يظل الملف الكردي في سوريا أحد أكثر الملفات حساسية واستراتيجية، ويطرح عدداً من السيناريوهات المحتملة لمستقبله:
المواجهة الشاملة: قد يؤدي التصعيد بين الحكومة السورية و”قسد” إلى مواجهة واسعة تحمل في طياتها استنزافًا كبيرًا للطرفين، مع انعكاسات خطيرة على الاستقرار الداخلي والإقليمي، قد تستلزم تدخلاً تركيًا وإسرائيليًا على حد سواء.
المواجهات المحدودة والانتفاضة العربية: قد تقتصر الاشتباكات على مناطق في دير الزور وريف حلب الشرقي والرقة، حيث تقوم عشائر عربية بمواجهات ضد “قسد”، في ما يمكن اعتباره انتفاضة محلية، تستفيد منها السلطات في دمشق لتوسيع نفوذها وتثبيت السيطرة على تلك المناطق.
إعادة المسار السياسي: يمكن أن يشهد الملف الكردي استئناف الحوار بين دمشق والوحدات الكردية برعاية أمريكية، وفق ما نص عليه اتفاق 10 آذار/مارس، بما يتيح إطارًا سلمياً لحل الخلافات وتقاسم النفوذ.
استمرار الوضع الراهن: يحتمل أن يبقى الوضع الحالي مستقرًا نسبيًا، مع وقوع مواجهات عسكرية محدودة ومحددة في بعض المناطق، دون انزلاق الأمور إلى صراع واسع، كما حصل في غرانيج ومحيطها في ريف دير الزور، وفي منبج ومنطقة سد تشرين في ريف حلب الشرقي.
تقاسم النفوذ والسيطرة: في السيناريو الأكثر تفاؤلاً، قد يقبل الطرفان بالمقترحات الأمريكية لتقاسم النفوذ والسيطرة، بما يضمن منع أي مواجهة عسكرية واستنزاف للطرفين، ويتيح فرصة للحفاظ على استقرار المناطق الحساسة.
تبقى هذه السيناريوهات دليلاً على حجم التعقيد في التعامل مع الملف الكردي، إذ تشكل التوترات السياسية والأمنية، إلى جانب التدخلات الإسرائيلية، عوامل رئيسية قد تحدد مسار هذا الملف الأساسي والمتفجر في سوريا خلال الفترة المقبلة.
المصدر: موقع المنار
0 تعليق