في وقت تتواصل فيه الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية بوتيرة متصاعدة، برز خلال الساعات الماضية مشهد لبناني داخلي لافت، عبّرت عنه سلسلة من المواقف الصادرة عن أعلى المستويات الرسمية، مشيرة إلى تبدّل ملموس في طريقة مقاربة العدوان وأدوات التصدي له.
من قصر بعبدا إلى السراي الحكومي ووزارة الخارجية، وصولًا إلى اليرزة، بدا الصوت اللبناني هذه المرة موحّدًا بشكل استثنائي، بعيدًا عن الخطابات المتباينة التي طبعت مقاربة الملف الإسرائيلي في محطات سابقة.
رئيس الجمهورية، العماد جوزاف عون، سارع إلى إدانة الغارات الأخيرة على الضاحية الجنوبية ومناطق الجنوب، معتبرًا إياها “استباحة سافرة لاتفاق دولي ولبديهيات القوانين والقرارات الأممية والإنسانية، عشية مناسبة دينية مقدسة”، مشددًا على أن هذا “الهجوم هو رسالة موجهة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها ومبادراتها أولًا، عبر صندوق بريد بيروت ودماء أبريائها ومدنييها، وهو ما لن يرضخ له لبنان أبدًا”، في لهجة بدت شديدة الصرامة، في توقيت بالغ الحساسية.
أما رئيس الحكومة، نواف سلام، فقد ذهب أبعد من ذلك، مؤكدًا أن العدوان الإسرائيلي يمثل “استهدافًا ممنهجًا ومتعمدًا للبنان وأمنه واستقراره”، مشددًا على أن هذه الاعتداءات تشكل انتهاكًا صارخًا للسيادة اللبنانية وللقرار الدولي 1701، داعيًا المجتمع الدولي إلى تحمّل مسؤولياته الكاملة في ردع العدوان وإلزام الاحتلال بالانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة.
وفي خطوة لافتة، أظهرت وزارة الخارجية اللبنانية – التي طالما اتسمت مواقفها بالحذر-، هذه المرة نبرة أكثر صلابة. فقد أعلنت أن الوزير يوسف رجي أجرى اتصالات مع الدول المعنية، مسجّلًا استنكار لبنان للاعتداءات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت ومنطقة عين قانا في الجنوب، معيدًا التذكير بضرورة التطبيق الكامل للقرار 1701 واحترام اتفاق وقف إطلاق النار.
في موازاة ذلك، جاء موقف قيادة الجيش اللبناني ليكمل مشهد التماسك الوطني، حيث أدانت قيادة الجيش الاعتداءات الإسرائيلية بشدة، وأكدت التزامها المطلق بتنفيذ القرار 1701، محذّرة من أن استمرار الخروقات من شأنه أن يؤدي إلى إعادة النظر في التعاون القائم مع آلية مراقبة وقف الأعمال العدائية (Mechanism)، في لهجة حملت رسائل واضحة لمن يعنيهم الأمر.
وتأتي هذه المواقف اللبنانية في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي في انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، والذي ينص على وقف الأعمال العدائية والانسحاب الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية. فمنذ ذلك الحين، نفذ الاحتلال مئات الانتهاكات الجوية والبرية والبحرية، طالت أجواء الجنوب اللبناني ومناطقه الحدودية، وامتدت مؤخرًا إلى العمق اللبناني، بما في ذلك الضاحية الجنوبية لبيروت.
وفي هذا السياق، وصف مدير ورئيس تحرير موقع الخنادق الدكتور محمد شمص، في حديث لموقع “المنار” الإلكتروني، هذه المواقف الرسمية بالتحوّل الإيجابي، مشيرًا إلى أن موقف رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، جاء انسجامًا مع التمسك بالثوابت الوطنية، وفي سياق الالتزام بالبيان الوزاري، لا سيما ما يتعلق بإدانة العدوان، وإعادة الإعمار، وإلزام الكيان الإسرائيلي بوقف إطلاق النار.
وأوضح الدكتور شمص، أن رئيس الحكومة نواف سلام أبدى تحولًا إيجابيًا ملحوظًا في مواقفه، مدركًا أهمية التوازنات الداخلية، وعدم إمكانية تجاهل قوة الداخل اللبناني، لاسيما وجود مكون وازن ذي قاعدة جماهيرية كبيرة تعتبر الأكبر بين الأحزاب والقوى السياسية اللبنانية.
وأكد أن هذا التحول نحو الواقعية السياسية يصب في مصلحة الحكومة الحالية، إذ يعزز موقعها الداخلي، ويساعدها في المضي قدمًا في مشاريع الإصلاح وإعادة الإعمار وبناء الدولة.
وتؤكد المعطيات الميدانية أن الكيان الإسرائيلي يمارس سياسة ممنهجة لخرق القرار 1701، سواء عبر التحليق المكثف للطائرات الحربية والطائرات المسيّرة، أو عبر التوغلات البرية المحدودة، أو تنفيذ اعتداءات مباشرة تستهدف منشآت مدنية ومراكز حيوية، ما يشكل خرقًا واضحًا للقانون الدولي الإنساني ولقرارات مجلس الأمن، دون أن يواجه بردع حقيقي من المجتمع الدولي.
هذا الاصطفاف اللافت حول مظلومية لبنان أمام العدوان عكس دينامية جديدة، قد تكون مؤشرًا إلى مسار أكثر تماسكًا في مواجهة المرحلة المقبلة، حيث برزت وحدة الموقف الرسمي كإحدى الركائز الممكنة للتأسيس على موقف وطني موحد، حيال الملفات المطروحة ومن بينها مسألة اعادة الاعمار والبحث في الاستراتيجية الدفاعية.
وبعيدًا عن التصريحات التقليدية، حملت المواقف الأخيرة بين طياتها إشارات واضحة إلى أن لبنان، بكل مكوناته الرسمية، يقف صفًا واحدًا في الدفاع عن سيادته وحقوقه، في لحظة إقليمية حساسة تستوجب أعلى درجات التنبه الوطني.
وفي ظل استمرار العدوان الإسرائيلي الوحشي على الجنوب اللبناني، بات من المطلوب، بحسب الدكتور شمص، أن تتخذ الدولة اللبنانية خطوات إضافية، أبرزها رفع شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن الدولي، وتحريك الملف مع الدول الراعية لاتفاق وقف إطلاق النار، ولا سيما الولايات المتحدة وفرنسا.
ورغم تأكيد شمص أن نتائج مثل هذه الشكاوى قد لا تكون فورية، إلا أنها تسهم في حفظ الحقوق اللبنانية على المستوى القانوني والدولي، وتشكل ورقة ضغط سياسية قد تؤتي ثمارها على المدى المتوسط.
كما لفت إلى أن بوسع لبنان الرسمي أن يتحرك باتجاه الدول العربية والإسلامية، وخاصة دول الخليج، التي تربطها علاقات جيدة مع الغرب، في ممارسة ضغط غير مباشر على الولايات المتحدة وفرنسا، وبالتالي على “الكيان الإسرائيلي”، لوقف عدوانه على لبنان والمدنيين الأبرياء.
وفي الخلاصة، فإن ما يثير غضب “الكيان الإسرائيلي” اليوم، ليس فقط قوة المقاومة، بل التفاهم الوطني اللبناني. فحين تتوحد المواقف الرسمية والشعبية، ويتكامل دور الجيش والشعب والمقاومة مع دعم الدولة لشعبها، يشكل ذلك الرد الأقوى على الاعتداءات الإسرائيلية. وحدة اللبنانيين وتماسكهم، هي السبيل الأمثل لمواجهة التحديات الراهنة.
المصدر: موقع المنار
0 تعليق