النخب السياسية والفكرية العربية خذلان وتخبط"

أخبارنا 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

إن أزمة النخبة العربية ليست طارئة ولا معزولة، بل هي أزمة بنيوية ناتجة عن تكلّس البنية الثقافية، واستبداد النسق السياسي، وتحلّل الرابط الأخلاقي بين النخبة وقواعدها الاجتماعية. لقد تحوّلت النخبة، في جزء كبير منها، إلى كائن طفيلي يمتص من الدولة ريعه المجاني ، ومصالحه الذاتية والانتهازية ، ومن الجماهير المدجَّنة شرعيته ومصداقيته، دون أن يتحمّل مسؤولية التأطير أو المجابهة. بل الأدهى أن كثيرًا من رموز النخبة انخرطوا في هندسة وشرعنة السلطوية تحت شعارات الحداثة أو الاستقرار أو الواقعية السياسية.

 

في السياق الفلسفي، يمكننا استحضار مفهوم "الخيانة" كما صاغه جان بول سارتر، حين فرّق بين المثقف الحقيقي والمثقف الخائن. فالأول، عنده، هو الذي يُناضل باسم الكليات، باسم الإنسان المقموع والحرية المهدورة، أما الثاني فهو من ينكفئ على مصالحه أو يسوّغ الظلم تحت لافتات أيديولوجية زائفة. بهذا المعنى، فإن النخبة العربية، في كثير من تمظهراتها، خائنة لرسالتها، منحرفة عن أفقها التاريخي.وبالتالي لا تتحمل مسؤوليتها التاريخية كما ينبغي..

 

أما من حيث التخبط، فهو ليس سوى عرض لغياب البوصلة الفكرية والسياسية، ونتيجة لتنازع الولاءات بين السلطة والمعارضة، بين الاصالة والمعاصرة، بين التحديث والتقليد، دون قدرة على بلورة مشروع تركيبي متماسك. ومن هنا نجد خطابًا نخبويًا متصدّعًا: نصف حداثي، نصف تراثي، نصف ممانع، نصف مطبّع، يحاكي الجميع ولا يُقنع أحدًا. وهذه هي نكسته الحقيقية كما أكد ذلك علي حرب المفكر اللبناني في كتابه القيم "أوهام النخبة أو أزمة المثقف"

 

إن النكسة الحقيقية ليست في الأنظمة فقط، بل في من يفترض بهم نقد الأنظمة وبناء البدائل. وهنا تكمن المفارقة التراجيدية للواقع العربي: شعوب تبحث عن طريق سالك لتخلفها المدقع، ونخب ترسم التيه والمتاهة.

 

قد يقول قائل إن جزءًا من النخب تعرض للقمع أو التهميش، وهي حقيقة لا غبار عليها. غير أن الفارق بين النخبة العضوية والنخبة التابعة المستكينة، أن الأولى تستمر في العمل والتفكير ولو من المنافي والزنازين، كما فعل غرامشي وبورديو وإدوارد سعيد ، بينما الثانية تذوب في بنية السلطة أو تقنع بلعب دور المراقب الصامت.

لم تعد الأزمة التي تعيشها المجتمعات العربية محض نتيجة لعوامل خارجية أو لمؤامرات عابرة، بل هي في عمقها نتيجة مباشرة لخذلان النخب التي كان يُفترض بها أن تقود مشاريع التنوير والتحرير، فإذا بها تسقط في مستنقعات التبعية، والانتهازية، والارتهان للسلطة أو للمصالح الضيقة.

فالـنخبة السياسية في أغلب الأقطار العربية لم تستطع بناء مشروع وطني مستقل، وظلت تتخبط بين الولاءات الإقليمية والضغوط الدولية، في حين أن النخبة الفكرية، التي كان يُنتظر منها أن تؤسس لوعي نقدي مقاوم، استسلمت إما لترف التنظير المنفصل عن واقع الشعوب، أو انساقت وراء أنظمة الحكم السياسية، متخلية عن دورها العضوي، كما وصفها غرامشي.

 

تخبط في الرؤية، خذلان في المواقف، وغياب عن ساحات الفعل... هذا هو حال النخب العربية، في زمن تتكالب فيه الأزمات وتتراكم التحديات، ويتربص العدو من وراء ستار أو في واضحة الشمس، بينما يظل الشارع بلا بوصلة، والثقافة بلا مشروع، والسياسة بلا ضمير.

 خذلان وتخبط 

في لحظة تاريخية مثقلة بالهزائم والانكسارات، تبرز النخبة، في الوعي الجمعي، بوصفها طليعة المفكرين والسياسيين الذين يُفترض أن يقودوا الأمة في زمن العمى والغشاوة الحضارية، ويصوغوا أفقًا للخلاص من قبضة الانحطاط. غير أن التجربة التاريخية العربية الحديثة والمعاصرة تكشف، في معظم تمظهراتها، عن خذلان مزدوج: خذلان المثقف الذي انكفأ أو باع قلمه، وخذلان السياسي الذي اختزل السلطة في إرادة الهيمنة لا في وظيفة الخدمة والتغيير.

 

ختامًا، فإن الواقع العربي لا يحتاج فقط إلى تغيير الوجوه أو الشعارات، بل إلى إعادة بناء النخبة على أسس أخلاقية ومعرفية جديدة، تُعيد للسياسة معناها الإنساني، وللفكر رسالته التحريرية، وتعيد للمثقف دوره كـ"ضمير زمني" لا كمجرّد صوت مأجور في سوق السلطة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق