الهند أمام فرصة تاريخية لمعالجة أزمة الاستثمار

البورصة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

“جي بي مورجان تشيس”: أرباح تشغيل الشركات ارتفعت بقوة منذ خفض الضرائب

في لقاء حمل عنوان “الأحداث العالمية الأخيرة: فرص الهند”، شدد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، على أن حكومته تعزز من إنفاقها الرأسمالي، داعياً كبار رجال الأعمال في البلاد إلى أن يحذوا حذوها.

ووفقاً لأحد المشاركين، فقد طلب مودي من الحاضرين “تحمل المخاطر وزيادة الاستثمارات”، وكان ذلك عام 2015.

منذ ذلك الحين، شهدت الهند تحولات كبيرة على مدار العقد الماضي في ظل قيادة مودي، إلا أن شهية القطاع الخاص للإنفاق الرأسمالي لا تزال ضعيفة، ولم تتغير بشكل ملحوظ.

ففي عام 2023، كان مودي لا يزال يوجه النداء ذاته، مشدداً على أن “القطاع الخاص يجب أن يزيد استثماراته تماماً كما تفعل الحكومة”، وهو موقف جدده أيضاً في وقت مبكر من هذا العام.

على الورق، تبدو الهند مؤهلة لأن تشهد طفرة استثمارية في الإنفاق الرأسمالي، فالسوق المحلي ضخم ويواصل التوسع، والحكومة توزع إعانات سخية للقطاع الصناعي، كما أن الاقتصاد ينمو بوتيرة تتجاوز %6 سنوياً، وهي الأسرع بين الاقتصادات الكبرى.

ومع ذلك، يظل المزاج الاستثماري لدى الشركات فاتراً.

فعندما تولى مودي منصبه في 2014، بلغت نسبة تكوين رأس المال الثابت الإجمالي، والتي تشمل استثمارات الأسر أيضاً، نحو 25.3% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما لم تتجاوز هذه النسبة 25.1% في العام الماضي.

أما استثمارات الأعمال التجارية وحدها، فلم تتجاوز سوى مرة واحدة مستوى 12.6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى أقل بكثير من ذروتها التاريخية، بينما بلغت في العام الماضي 11.5% فقط.

يعد رئيس الوزراء بتحويل الهند إلى اقتصاد متقدم بحلول عام 2047، تزامناً مع الذكرى المئوية لاستقلالها عن بريطانيا، حسب ما نقلته مجلة “ذا إيكونوميست” البريطانية.

ولتحقيق ذلك، يحتاج الاقتصاد إلى نمو بمتوسط سنوي يبلغ 7.8%، بحسب تقديرات البنك الدولي.

وتأتي زيادة الإنفاق الرأسمالي في صدارة قائمة الإصلاحات التي يتوجب تنفيذها لتحقيق هذا الهدف.

لقد استنفدت الحكومة كل ما في وسعها لمواجهة هذا التحدي.

ففي البداية، أُرجع ضعف الاستثمار إلى ما يُعرف بـ”مشكلة الميزانيات العمومية المزدوجة”، حيث كانت الشركات مثقلة بالديون، بينما كانت دفاتر البنوك تعج بالقروض المتعثرة.

فتدخلت الحكومة لمعالجة هذا الوضع، وتحسنت الميزانيات العمومية، ولم يعد التمويل يمثل عنق زجاجة، كما بدأت أسعار الفائدة في التراجع بعد أن كانت قد ارتفعت بفعل جائحة كوفيد-19.

كما أسفرت ضريبة السلع والخدمات التي تم إقرارها على المستوى الوطني عام 2017 عن توحيد السوق الهندية وإلغاء معظم الضرائب المحلية، مما سهل مزاولة الأعمال التجارية عبر حدود الولايات.

وفي عام 2019، تم تنفيذ خفض هائل في ضرائب الشركات، ليهبط المعدل الفعلي من 35% إلى 25%.

وتزامناً مع ذلك، كثفت الحكومة إنفاقها الرأسمالي، لا سيما على مشاريع البنية التحتية، على أمل أن يشجع ذلك القطاع الخاص على المضي في النهج ذاته عبر توفير فرص استثمارية جديدة.

لكن هذه الجهود لم تحقق النتائج المرجوة.

فبحسب تقديرات بنك “جي بي مورجان تشيس”، فإن أرباح التشغيل لدى الشركات قد ارتفعت بقوة منذ خفض الضرائب، غير أن الإنفاق الرأسمالي بالكاد تحرك.

بل إن مسحاً حديثاً أجرته “الهيئة الوطنية للإحصاء” يشير إلى أن هذا النوع من الإنفاق قد يتراجع بالكامل هذا العام.

تعكس هذه المؤشرات أحد الأسباب الرئيسة لأزمة الاستثمار في الهند، والتي تتمثل في أن الاستهلاك لا ينمو بالسرعة الكافية التي تدفع الشركات إلى ضخ استثمارات في مرافق جديدة.

فعلى مدار العقد الماضي، ظلت المصانع تعمل بمعدلات تشغيل تتراوح بين 70 و75% فقط، باستثناء الانخفاض الحاد خلال الجائحة.

وقد دعت الحكومة الشركات إلى رفع الأجور، كما بدأت متأخرة في اتخاذ إجراءات لتعزيز الاستهلاك، من بينها الإعلان عن إعفاءات ضريبية كبيرة للطبقة المتوسطة في موازنة العام الجاري.

ويقول أجاي تشيبر من جامعة جورج واشنطن إن من شأن ذلك أن يزيد الطلب ويتيح للشركات استغلال فائض الطاقة الإنتاجية لديها، لكنه يضيف، إن “الأثر الكلي على الاقتصاد ما يزال ضئيلاً”، إذ لا يشكل الموظفون من أصحاب الأجور الثابتة سوى خُمس القوى العاملة.

وفي الوقت الذي تشهد فيه الاقتصادات النامية عادةً انتقال العمالة من الزراعة إلى الصناعة، بقيت نسبة العاملين في القطاع الصناعي الهندي عند 12%، وهي النسبة ذاتها التي كانت سائدة قبل عقدين. بل إن نصف الوظائف التي أُنشئت منذ الجائحة كانت في الزراعة.

فهل يمكن أن تشكل الصادرات محركاً للاستثمار؟

رغم أن الهند لم تكن تواجه حينها الرسوم الجمركية المتقلبة التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلا أنها ظلت تجد صعوبة في تصدير منتجاتها للخارج.

وعلى مدى سنوات، حاول الوزراء جذب الشركات التي تغادر الصين لبناء مصانعها في الهند، وهي استراتيجية لم تحقق إلا مكاسب محدودة، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الحكومة نفسها زادت من الرسوم الجمركية والحواجز غير الجمركية في الآونة الأخيرة.

إذ يبلغ متوسط الرسوم الجمركية حالياً 16%، أي أعلى بنسبة تفوق الخُمس مقارنة بعام 2014 عند تولي مودي السلطة.

هناك أيضاً مخاوف من تركز الاستثمارات بيد عدد قليل من التكتلات الكبرى.

فمنذ عام 2016، استحوذت أكبر خمسة تكتلات في البلاد على حصة متزايدة من السوق، بحسب فيرال أتشاريا، النائب السابق لمحافظ “بنك الاحتياطي الهندي”.

ويُعزز الحِمائية هذا الاتجاه، إذ تساعد مثل هذه السياسات التكتلات الضخمة على ترسيخ هيمنتها محلياً، ما يقلل من حوافزها للسعي وراء الأرباح الخارجية.

ويقول ريتش كومار سينج، من شركة الاستشارات “إندونوميكس”: “سياسات الحكومة مؤيدة للأعمال التجارية، لكنها ليست مؤيدة للسوق”.

وأضاف: “عندما لا تكون مؤيداً للسوق، فأنت لست مؤيداً للمستهلكين أيضاً”.

ويعاني المستهلكون من ارتفاع هامش الربح والضرائب العالية على الاستهلاك.

أما المستثمرون الذين يفكرون في ضخ أموالهم في الهند، فيحتاجون إلى ضمانات بعدم تعرضهم لعقوبات أو ملاحقات.

فقد اتُهمت شركة “فولكس واجن” الألمانية لصناعة السيارات مؤخراً من قبل سلطات الضرائب بسوء تصنيف وارداتها، ما قد يؤدي إلى فرض غرامة تصل إلى 2.8 مليار دولار، وصفها محامي الشركة بأنها “مسألة حياة أو موت” بالنسبة لنشاطها في الهند.

كما طُلب من شركة “سامسونج” الكورية الجنوبية للاتصالات دفع مبلغ 520 مليون دولار بتهم مماثلة.

وبغض النظر عن مدى صحة هذه القضايا، فإنها تبعث برسائل مثيرة للقلق إلى المستثمرين، وتستحضر في الأذهان معارك قانونية سابقة حول ضرائب بأثر رجعي مع “فودافون” و”كيرن”، وهما شركتان بريطانيتان.

في فبراير الماضي، أعلن مودي عن إنشاء لجنة تنظيمية لتقليص الأعباء عن كاهل الشركات.

وتشكل حالة عدم اليقين العالمية المحيطة بالتجارة فرصة أخرى لإجراء إصلاحات هيكلية، حيث يمكن تبرير القرارات الصعبة بالسياق الدولي.

يبدو أن عودة ترمب للسلطة قد ساهمت في تسريع التفكير بهذا الاتجاه.

فقد أُعلن عن تخفيضات جمركية في موازنة فبراير، كما توصلت الهند أخيراً إلى اتفاق تجاري مع بريطانيا في مايو بعد مفاوضات استمرت ثلاث سنوات.

وتشهد المباحثات مع الاتحاد الأوروبي زخماً متزايداً، في حين يواصل المفاوضون مناقشة شروط اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة.

بعبارة أخرى، بات لدى الهند اليوم دوافع لفتح أسواقها، وتعزيز المنافسة، ودفع الاستهلاك إلى الأمام.

ويقول فيرال أتشاريا: “هناك لحظة ذهبية حالياً لأن الضغوط تأتي من الخارج”.

وبعد مرور عشر سنوات على أول دعوة أطلقها مودي للاستثمار، تعود الأحداث العالمية مجدداً لتمنح الهند فرصة جديدة، لكنها هذه المرة قد تكون مستعدة لاقتناصها.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق