بعد فترة من التحفّظ والترقّب، بدأت صناديق الاستثمار المباشر تعود إلى مسرح تمويل الشركات الناشئة بقوة، لتدشّن ما يشبه «موسم الانفتاح» على المخاطر، بعد سنوات من التحوّط فى الملاذات الآمنة مثل الذهب والشهادات البنكية. يعكس التحول اللافت فى شهية الصناديق ثقةً متزايدة فى تحسّن البيئة الاقتصادية، مدفوعة باستقرار سعر الصرف واتجاه الفائدة نحو التراجع، مما أضفى نوعاً من الوضوح على المشهد الاستثماري. الجولات التمويلية الأخيرة التى أعلنت عنها بعض الشركات الناشئة لم تكن مجرد صفقات منفصلة، بل تمثّل بداية لسلسلة أوسع من التدفقات التى تراهن على تعافى السوق المحلي، وقدرة روّاد الأعمال على توليد نماذج أعمال قابلة للنمو. ومع ذلك، تبقى تساؤلات محورية تفرض نفسها، منها: هل يمثل هذا التوجّه تحولاً إستراتيجياً طويل الأجل؟ وما الأدوات التى تلجأ إليها الصناديق للتحوّط من مخاطر الاستثمار فى هذا القطاع عالى الحساسية؟ وإلى أى مدى يمكن استدامة هذا الزخم فى ظل التحديات التمويلية والتنظيمية الراهنة؟ قالت نور علام، الشريك المستثمر بصندوق رأس المال المخاطر Plus VC، إن الأوضاع الاقتصادية الحالية، من استقرار نسبى فى سعر الصرف وتراجع أسعار الفائدة، كان يُتوقّع أن تُحفّز على ضخ أكبر لرؤوس الأموال فى السوق، إلا أن ذلك لم يُقابَل بعدد كافٍ من الشركات ذات الجودة المناسبة التى تستحق الاستثمار، كما كان الحال فى فترات سابقة. وأشارت إلى أن العديد من المؤسسين لا يزالون مترددين فى بدء مشاريع جديدة، وفى المقابل، تُحجم صناديق رأس المال المخاطر الأجنبية عن العودة إلى السوق المصري، رغم أن الوقت الحالى يُعدّ من أفضل الأوقات لدخول السوق مرة أخرى، فى ظل انخفاض تقييمات الشركات مقارنة بما كانت عليه خلال عامى 2022 و2023، عندما كانت السوق تعانى من تقلبات حادة فى سعر الصرف وظروف اقتصادية ضاغطة. اقرأ أيضا: المناطق الحرة المصرية تستضيف الشركات الناشئة المصدرة لأول مرة وأكدت «علام»، أن على صناديق رأس المال المخاطر المصرية أن تبادر أولاً بالاستثمار فى الشركات الناشئة المحلية، لتكون بمثابة عامل جذب لعودة الصناديق الأجنبية. أضافت أن عودة التدفقات الاستثمارية إلى السوق ستزيد من حجم المخاطر بطبيعة الحال، لكنها شددت على أن طبيعة عمل هذه الصناديق تقوم على الثقة فى الأفكار البسيطة وتحويلها إلى شركات قابلة للنمو، مع إدراك أن هناك احتمالية للخسارة فى بعض الاستثمارات، لكن فى المقابل قد تحقق استثمارات أخرى عوائد مضاعفة تصل إلى 5 أو حتى 10 أضعاف قيمة الاستثمار الأصلي. وشهدت الفترة الأخيرة عودة للاستثمارات المخاطرة؛ فخلال أبريل فقط، استحوذت شركة DPI البريطانية على صندوق التكنولوجيا المالية Nclude، بهدف إطلاق صندوق تمويل لإفريقيا، كما جمعت شركة Money Fellows، المتخصصة فى التكنولوجيا المالية، نحو 13 مليون دولار فى جولة تمويل استراتيجية بقيادة مشتركة من Al Mada Ventures وDPI Venture Capital عبر صندوق Nclude، وبمشاركة Partech، وCommerzVentures، ومستثمرين آخرين. كما حصلت شركة iSUPPLY، المتخصصة فى تكنولوجيا الرعاية الصحية بين الشركات (B2B)، على تمويل قائم على الإيرادات ومتوافق مع الشريعة الإسلامية بقيمة 3 ملايين دولار من شركة Bokra، بهدف توسيع الوصول إلى الإمدادات الطبية فى جميع أنحاء مصر، وخاصةً الأماكن النائية. «وجيه»: تراجع الفائدة يعيد توجيه التدفقات نحو الأصول عالية النمو قال هيثم وجيه، المدير التنفيذى لشركة أفانز منارة لرأس المال المخاطر، إن خفض أسعار الفائدة يشكل حافزاً مهماً للمستثمرين، حيث يؤدى إلى تراجع جاذبية عوائد أدوات الدخل الثابت مثل أذون وسندات الخزانة، ما يدفع المستثمرين إلى البحث عن فرص استثمارية ذات نمو أعلى، مثل الشركات الناشئة التى تعتمد على تمويلات رأس المال، وليس القروض. وأوضح أن صناديق رأس المال المخاطر، فى نهاية الأمر، تعتمد على وجود مستثمرين خلفها، وبالتالى لا يمكن الحديث عن نشاط الصناديق دون النظر إلى البيئة التى تشجّع المستثمرين على ضخ أموالهم فيها، مشيراً إلى أن الإجراءات التى اتُّخذت مؤخراً تُعد خطوات إيجابية، لكنها لا تزال بحاجة إلى استكمال بإصلاحات أوسع لخلق بيئة أكثر جاذبية لرؤوس الأموال. وشدد «وجيه»، على ضرورة أن تتبنى الدولة نظرة أكثر مرونة فيما يتعلق بمكان تأسيس الصناديق، موضحاً أن مؤسسات التمويل الدولية تجد صعوبة فى الاستثمار داخل صناديق مؤسسة فى مصر حاليًا، لكنها قد تكون مستعدة لتمويل صناديق أجنبية تركز استثماراتها على السوق المصري. وتراجع حجم الاستثمارات التى ضُخّت فى الشركات الناشئة خلال العام الماضى بنحو 45%، لتسجل 334 مليون دولار، مقارنة بحوالى 608 ملايين دولار خلال 2023، على الرغم من عدم استقرار البيئة الاستثمارية فى ذلك العام، والذى شهد تذبذبات مرتفعة فى سعر الصرف ونقصاً حاداً فى العملة. وجاء ذلك الارتفاع فى العام قبل الماضى نتيجة ارتفاع التمويلات بالدين، فى حين تقاربت التمويلات عن طريق رأس المال بين العامين. ووصل عدد الشركات التى ضُخّت فيها تلك الاستثمارات فى 2023 إلى حوالى 90 صفقة، فى حين تراجع العدد إلى 84 صفقة خلال 2024. «أبوالمجد»: الاستقرار الاقتصادى يشجع على ضخ مزيد من الاستثمارات وقال علاء أبو المجد، إن الوضع الاقتصادى الآن يسمح بزيادة الاستثمارات فى الشركات الناشئة، خاصةً بعد استقرار كل من سعر الصرف وخفض الفائدة، مما خفّض من مخاطر الاستثمارات فى هذا القطاع. وأشار إلى أن انخفاض الفائدة يجعل العوائد من أدوات الدين أقل جاذبية، وبالتالى يزيد من شهية صناديق الاستثمار نحو الأصول الأعلى مخاطرة مثل الشركات الناشئة، خاصة إذا كانت تمتلك نماذج أعمال واعدة. كما يُحفّز ذلك المستثمرين على توجيه أموالهم نحو الابتكار والنمو بدلاً من الادخار التقليدي. وأضاف «أبوالمجد»، أن الاحتياطات التى اتخذتها هيئة الرقابة المالية خلقت بيئة مشجعة بشكل كبير لصناديق الاستثمار على تمويل الشركات الناشئة. وأكد أن الاستقرار الاقتصادى يشجع على الاستثمار فى الشركات، مع توافر مؤسسى الشركات الناشئة المدرَّبة الذين شجعوا الاستثمار. وشهدت الفترة الأخيرة استقراراً ملحوظاً فى أسعار الصرف، بعد زيادة الاحتياطى النقدي، الذى وصل إلى قمته التاريخية بنهاية أبريل عند 48.1 مليار دولار، مما شجّع على تحقيق الجنيه مكاسب أمام الدولار، بالإضافة إلى خفض «المركزى» معدلات الفائدة بنحو 2.25%، لتسجل 25% و26% للإيداع والإقراض لليلة الواحدة.