بحلول عام 2050، من المتوقع أن تتجاوز قيمة سوق الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا النظيفة العالمية 100 تريليون دولار، مما يجعلها واحدة من أكثر القطاعات تأثيرًا في الاقتصاد العالمي، فالدول التي ستتصدر في مجالات الطاقة الشمسية، الهيدروجين الأخضر، السيارات الكهربائية، وتخزين الطاقة لن تحقق فقط تقليلًا كبيرًا في الانبعاثات الكربونية، بل ستضع نفسها في صدارة اقتصاد المستقبل. مصر، بفضل موقعها الجغرافي الاستراتيجي، وموارد الطاقة المتجددة الوفيرة، وقاعدة المواهب التقنية المتنامية. بدأت بالفعل في اتخاذ خطوات واعدة نحو هذا المستقبل. استثماراتها في البنية التحتية، الشراكات الإقليمية، وتوسع محفظتها من الطاقة المتجددة تُظهر التزامًا واضحًا. ومع ذلك، لتحقيق مكانة ريادية في هذا السباق العالمي، يتعين على مصر بذل جهود إضافية لدعم الشركات الناشئة في التكنولوجيا النظيفة وتطوير سياسات شاملة تعزز الابتكار وتجذب الاستثمارات طويلة الأجل. مصر، مثل العديد من الدول التي تسعى إلى التحول إلى اقتصادات خضراء، تواجه تحديات مشتركة تشمل محدودية التمويل في المراحل المبكرة للشركات الناشئة، ضعف التنسيق في جهود البحث والتطوير، ونقص الإشارات السياسية القوية التي تجذب المستثمرين على المدى الطويل. ومع ذلك، تمتلك مصر أصولًا فريدة تضعها في موقع متميز للاستفادة من هذه الفرص. موارد الطاقة الشمسية والرياح الوفيرة، إلى جانب موقعها الاستراتيجي الذي يربط بين إفريقيا، أوروبا، وآسيا، يجعلها مركزًا محتملاً للابتكار في التكنولوجيا النظيفة. إضافة إلى ذلك، قاعدتها القوية من المواهب التقنية، خاصة في مجالات الهندسة والعلوم، توفر أساسًا متينًا لبناء نظام بيئي للشركات الناشئة. الفرصة الآن تكمن في تحويل هذه المزايا إلى نمو اقتصادي مستدام مدفوع بالشركات الناشئة في التكنولوجيا النظيفة. في عام 2024، شكلت الشركات الناشئة المرتبطة بالمناخ 17% من إجمالي الشركات الناشئة المدعومة برأس المال الاستثماري في إفريقيا، مما يعكس أهمية هذا القطاع على الرغم من انخفاض التمويل الإجمالي مقارنة بالعام السابق. تشمل النماذج البارزة في هذا المجال الطاقة الشمسية خارج الشبكة، التنقل الكهربائي (مثل شركة BasiGo في كينيا)، ونماذج تحويل النفايات إلى طاقة. ومع ذلك، تواجه الشركات الناشئة في مجال الطاقة تحديات كبيرة في القارة، بما في ذلك تقلبات التمويل، تراجع الاستثمار العالمي، والاعتماد على نماذج أجهزة ثقيلة تتطلب استثمارات كبيرة ودورات تحقق تكنولوجي طويلة. إضافة إلى ذلك، قلة خبرة بعض المستثمرين بأنظمة الطاقة تعيق جذب رأس المال اللازم. في مصر وإفريقيا، تعرقل عقبات مثل التكامل مع الشبكة الكهربائية، تصاريح المواقع، والوصول إلى الأراضي الحكومية تقدم مشاريع الطاقة الشمسية، الرياح، والهيدروجين الأخضر. السياسات المتعلقة بحماية الملكية الفكرية، أرصدة الكربون، وتسعير الطاقة تظل غير متسقة أو غير متطورة، مما يزيد من تعقيد عمل الشركات الناشئة في قطاعات مثل تحويل النفايات إلى طاقة، الهيدروجين الأخضر، وشحن المركبات الكهربائية. العديد من الأفكار المبتكرة في التكنولوجيا النظيفة تتوقف قبل التسويق بسبب نقص مختبرات الاختبار، المواهب الهندسية لتطوير النماذج الأولية، والإرشاد الصناعي اللازم لدعم رواد الأعمال. مصر ليست وحيدة في مواجهة هذه التحديات. اقتصادات منافسة مثل الهند، المغرب، كينيا، والبرازيل بدأت في بناء أنظمة سياسية تدعم رواد الأعمال، تقلل من مخاطر الاستثمار، تجذب الشركاء العالميين، وتطور سلاسل التوريد المحلية. في مصر، بدأت اللجنة الوزارية لريادة الأعمال في عقد جلسات نقاش مع الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا النظيفة، مما يعكس التزام الحكومة بدعم هذا القطاع الاستراتيجي وإدراكها لأهميته في تحقيق التنمية المستدامة. ومع ذلك، لتبقى مصر في صدارة المنافسة، يجب عليها تسريع هذه الجهود وتوسيع نطاقها لتشمل سياسات شاملة ومبادرات ملموسة تعزز الابتكار وتيسر وصول الشركات الناشئة إلى الأسواق. محفظة مصر في الطاقة المتجددة تشهد توسعًا ملحوظًا. مشروع بنبان للطاقة الشمسية يعد إنجازًا بارزًا، حيث أصبح واحدًا من أكبر مجمعات الطاقة الشمسية في العالم، وقد عزز مكانة مصر كلاعب رئيسي في هذا القطاع. كما وقّعت الحكومة أكثر من 20 مذكرة تفاهم مع شركاء دوليين لتطوير مشاريع في الهيدروجين الأخضر، الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح. هذه الخطوات واعدة، لكن لتحويل هذه المشاريع إلى قيمة صناعية دائمة، يجب أن تكون جزءًا من نظام بيئي متكامل يدعم الشركات الناشئة في التكنولوجيا النظيفة، وتلعب الشركات الناشئة دورًا محوريًا في تفعيل سلاسل القيمة بقطاعات الطاقة النظيفة. في عام 2024، شهدت إفريقيا انخفاضًا بنسبة 28% في تمويل رأس المال الاستثماري، حيث بلغ الإجمالي 2.6 مليار دولار، وتوجه 17% فقط من هذا التمويل إلى مشاريع المناخ، أي نصف القيمة مقارنة بعام 2023. في عام 2023، ظل الإجمالي مستقرًا عند 471 مليون دولار مقارنة بـ 2022، مما يعكس أحجام تذكرة أصغر وتركيزًا على الاستثمارات المبكرة. في عام 2024، انخفضت القيمة إلى ما يقرب من 235-250 مليون دولار، لكن التكنولوجيا النظيفة ظلت من بين القطاعات الثلاثة الأكثر نشاطًا إلى جانب التكنولوجيا المالية والذكاء الاصطناعي. المستثمرون يركزون بشكل متزايد على “الجودة على الكمية”، حيث ارتفع متوسط حجم الصفقات بنسبة 32% إلى 2.5 مليون دولار، مع تركيز متزايد على الاستثمار الموجه نحو التأثير ومعايير الحوكمة البيئية والاجتماعية. المشهد العالمي للتكنولوجيا النظيفة تنافسي للغاية، حيث تعيد التوترات التجارية تشكيل الوصول إلى الأسواق. الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، والصين يوسعون التصنيع المحلي، بينما تؤمن دول مثل ماليزيا والهند مواقعها المستقبلية من خلال سياسات استباقية، وليس فقط الاستثمار. مصر يجب أن تتبنى نهجًا استباقيًا مماثلاً لتبقى ذات صلة. على سبيل المثال، على الرغم من امتلاك مصر موارد شمسية وفيرة، إلا أن استمرار الاعتماد على التكنولوجيا المستوردة يجعلها عرضة لتقلبات الأسعار العالمية واضطرابات سلاسل التوريد. طموحات مصر في الهيدروجين الأخضر مدعومة بمذكرات تفاهم متعددة واهتمام دولي كبير. لكن لتحويل هذه الطموحات إلى صادرات مستدامة، يجب أن تطور مصر إطارًا تنظيميًا واضحًا، وبرامج بحث وتطوير للإلكترولايزر، مع حوافز تدعم خلق القيمة المحلية. مصر تستهدف إنتاج 5 ملايين طن سنويًا من الهيدروجين الأخضر بحلول عام 2040، وهناك فرص كبيرة للشركات الناشئة للابتكار عبر سلسلة القيمة، من تصنيع الإلكترولايزر وتحسين العمليات والصيانة، إلى تطوير أنظمة هيدروجين مدعومة بالذكاء الاصطناعي، برمجيات المراقبة، وإعادة استخدام المنتجات الثانوية مثل الأكسجين والحرارة. مع توفر مختبرات البحث والتطويرفي الجامعات و القطاع الخاص ودعم من مؤسسات التمويل التنموي، يمكن لمصر بناء تجمع تكنولوجي إقليمي للهيدروجين الأخضر. نظام الابتكار المصري يمكن أن يزدهر من خلال الشركات الناشئة التي تعالج المباني ذات الكفاءة الطاقوية وتجديدها، تحلية المياه بالطاقة الشمسية وإعادة استخدام المياه، الري الذكي والتكنولوجيا الزراعية المقاومة للتغيرات المناخية، وفرز النفايات، إعادة التدوير المتقدم، ولوجستيات التجميع الذكية. عالميًا، هناك نماذج ملهمة لدعم الشركات الناشئة في التكنولوجيا النظيفة. في الهند، يوفر مركز الابتكار الدولي للطاقة النظيفة معدات مخصصة ويمزج بين التمويل العام والخاص مع إتاحة الوصول إلى مرافق شركة كبرى لتوزيع الكهرباء. في سنغافورة، تتبع Ecolabs-COI نهجًا مشابهًا، حيث طورت علاقات مع كيانات تجارية تستضيف اختبارات واقعية لتقنيات الشركات الناشئة. على النقيض، تقدم مختبرات”Energy Systems Catapult Living Labs” في المملكة المتحدة فرصًا لاختبار الحلول الذكية والفعالة في المنازل السكنية المجهزة للتجارب الميدانية. الابتكار المحلي في تصميم الإلكترولايزر، تجميع الألواح الشمسية، وبنية التنقل الكهربائي يمكن أن يفتح إمكانات تصدير كبيرة ويقلل الاعتماد على الواردات في مصر، خاصة في المشاريع الضخمة. تطوير بنية تحتية للتنقل الكهربائي، بما في ذلك محطات الشحن وأنظمة إدارة البطاريات، مع إعطاء الأولوية للشركات الناشئة المحلية لتصميم ونشر هذه الحلول، يعد خطوة حاسمة. إنشاء مراكز تصدير للتكنولوجيا النظيفة بالتعاون مع اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية يمكن أن يتيح للشركات الناشئة المصرية الوصول إلى الأسواق الإفريقية والعالمية، مما يعزز التنافسية الاقتصادية. نجاح النظام البيئي يتطلب شراكة قوية بين الحكومة والقطاع الخاص والممولين، فالقطاع الخاص يلعب دورًا حيويًا في الاستثمار في البحث والتطوير، والشراكة مع الجامعات، وحضانة الشركات الناشئة، والتطوير المشترك للبنية التحتية. والسياسات يجب أن تُصمم لتحفيز هذه المشاركة من خلال الحوافز، نماذج تقاسم المخاطر، وتبسيط التنظيمات، والحكومة يجب أن تتحول إلى شريك رئيسي، ليس فقط كمنظم، بل كعميل مبكر ومبتكر مشارك، حيث أن التكامل بين شركات التكنولوجيا النظيفة وقطاعات أخرى كالتنقل والزراعة والمياه يعزز فرص الابتكار والنمو. مصر يجب أن تواءم التعليم وتطوير القوى العاملة مع أهدافها لدعم الشركات الناشئة. دمج الطاقة النظيفة والأنظمة الرقمية في المناهج الجامعية والفنية أمر ضروري لتلبية احتياجات السوق. برامج بناء القدرات والحاضنات داخل الجامعات يمكن أن تحول الأفكار الطلابية الواعدة إلى مشاريع تجارية قابلة للحياة. الشراكات الدولية يجب أن تتجاوز التمويل، وتعطي الأولوية لنقل المعرفة، التعاون التقني، والبحث والتطوير المشترك، لضمان أن تصبح مصر مساهمًا نشطًا في الابتكار العالمي، وليس مجرد متلقٍ. المسار الذي تسير عليه مصر يشبه مسار العديد من الدول الأخرى: طموح كبير في البنية التحتية، لكن هناك فجوات في استراتيجية دعم الشركات الناشئة. الفرق سيحدثه مدى سرعة وفعالية مصر في ربط هذه النقاط. السنوات الخمس القادمة في إفريقيا ستتحدد بالمرونة، التكامل الإقليمي، والصلة بالتحديات العالمية. إذا نجحت مصر في بناء منظومة شاملة تدعم الشركات الناشئة في التكنولوجيا النظيفة، فستضمن لنفسها دورًا محوريًا في الاقتصاد الأخضر العالمي، وتفتح آفاقًا جديدة للنمو المستدام، وفرص العمل، والسيادة التكنولوجية في إفريقيا والشرق الأوسط. بقلم: محمد عطية، باحث متخصص في إدارة الطاقة والطاقة المتجددة