يجب توحيد الأشكال المختلفة من الديون الصادرة بضمان مشترك من دول الاتحاد لطالما كان من طموحات الاتحاد الأوروبى أن ينافس اليورو، الدولار الأمريكى على الهيمنة العالمية، أو على الأقل أن يكون أداة سيادية نقدية داخل أوروبا. والآن، فإن ما يمكن اعتباره «تخريبًا ذاتياً» من إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى واشنطن يقدم فرصة ذهبية لتحقيق هذا الحلم، إذا استطاع القادة الأوروبيون التغلب على ترددهم السياسى واتخاذ ما يلزم من خطوات جريئة. صحيح أنه، كما فى العديد من مجالات السياسات الاقتصادية، من غير الواضح ما هى أهداف إدارة ترامب الحقيقية بالنسبة للدولار. فبعض أعضاء الإدارة يرون أن جاذبية الدولار، أى «الامتياز الباهظ» المتمثل فى الحصول على ائتمان رخيص مضمون من بقية دول العالم، هو فى الحقيقة عبء باهظ لأنه يرفع من قيمة العملة ويقوّض تنافسية قطاع التصنيع الأمريكي. فى المقابل، يتمسك آخرون، وعلى رأسهم وزير الخزانة سكوت بيسنت، بسياسة «الدولار القوي» كالتزام أمريكى ثابت. هناك أيضًا توجه نحو السيطرة على السوق الناشئة للمدفوعات الدولية من خلال العملات الرقمية المستقرة المرتبطة بالدولار، وهو ما يوفر مصدرًا جديدًا لاحتياطيات وزارة الخزانة الأمريكية. ربما لم تحسم الإدارة موقفها بعد، لكن المستثمرين يبدو أنهم حسموا أمرهم.فقد أعقب إعلان ترامب عن رسوم «يوم التحرير» رد فعل غير معتاد من الأسواق تجاه تصاعد المخاطر العالمية، إذ شهدت الأسواق تراجعًا فى كل من سندات الخزانة الأمريكية والدولار بشكل عام. على الأقل فى الوقت الحالي، لم يعد مديرو الأموال العالميون يعتبرون الدولار الملاذ الآمن المطلق. لقد تعرضت الثقة فى الدولار لصدمة بسبب سياسة ترامب الجمركية، وأيضًا بسبب طرح فريقه أفكارًا مالية غريبة، مثل إجبار حاملى السندات على تحويلها قسريًا، أو فرض رسوم على من يمنح الحكومة الأمريكية قروضًا. كما أن سلوك الإدارة العدائى تجاه سيادة القانون يجعل جميع الحقوق القانونية، بما فى ذلك المطالبات المالية، فى موضع شك. فهل يسمع القادة الأوروبيون هذا «النداء الاستثماري» الصادر من الأسواق، الباحثة عن أصل بديل؟إذا كان ثمة وقت مناسب لما يُعرف بـ«لحظة هاميلتونية» — فى إشارة إلى وزير الخزانة الأمريكى ألكسندر هاميلتون الذى وحد الديون الأمريكية بعد الاستقلال — فإن هذا هو الوقت المناسب. إذ يمكن لدول منطقة اليورو إصدار مخزون كبير ودائم من الديون المشتركة لاستبدال المشهد المتشظى للسندات السيادية الوطنية. وسيُقبل المستثمرون العالميون على هذا الأصل الآمن واسع النطاق والسيولة باليورو… لكن من الواضح أن الظروف السياسية لم تتهيأ بعد. ومع ذلك، يمكن اتخاذ خطوات أبسط على المدى القريب لاستغلال أخطاء الولايات المتحدة كفرصة استراتيجية لأوروبا. أولًا، يجب تأجيل سداد الديون الأوروبية المشتركة التى أُصدرت لتمويل صندوق «الجيل القادم من الاتحاد الأوروبي» الذى أُنشئ بعد الجائحة. وكان من المفترض تقليص هذا الدين تدريجيًا حتى عام 2058، لكن يجب تمديده إلى أجل غير مسمى. ثانيًا، يجب توحيد الأشكال المختلفة من الديون التى تم إصدارها بضمان مشترك من الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبي.فمع الوقت، يمكن أن يحل مُصدر واحد ومجموعة موحدة من السندات محل هذا الخليط الحالى من السندات الوطنية، بما يشمل أيضًا الإصدارات الجديدة، مثل تلك المتوقعة لتمويل 150 مليار يورو فى الإنفاق الدفاعى المشترك. ثالثًا، يمكن للاتحاد الأوروبى أن يمول الإنفاق المستقبلى مسبقًا. ففى العامين المقبلين، ستتفاوض الدول الأعضاء على ميزانية سبع سنوات تتجاوز قيمتها تريليون يورو. ويمكن معايرة عمليات الاقتراض مسبقًا للحفاظ على حجم ثابت وكبير من الدين الأوروبى المشترك.مثل هذه المبادرات من شأنها أن تلبى الطلب المتزايد على أصول آمنة وكبيرة الحجم باليورو، كما ستُظهر التزام الاتحاد الأوروبى بخلق سوق نشط وعميق للأصول المقومة باليورو على المدى الطويل. وهذا من شأنه أن يخفض تكاليف الاقتراض الأوروبى فى وقت تستعد فيه الدول الأعضاء لزيادة الاستثمار فى الدفاع والسياسات الصناعية. لكن تغير تصور الأمان النسبى بين الدولار واليورو، ليس المحفز الوحيد الذى يدفع لصالح اليورو.تاريخيًا، كانت قرارات الشركات العالمية حول العملات التى تستخدمها فى الفوترة والتمويل التجارى تسبق قرارات الحكومات بشأن عملات الاحتياط.فكّر فى هذا السؤال: إذا توقفت عن التجارة مع الولايات المتحدة، فهل لا تزال بحاجة إلى الاحتفاظ بعملتها؟ وإذا أصر ترامب على القضاء على الفوائض الثنائية لكل الدول مع أمريكا، فكيف يمكن لتلك الدول أن تواصل تراكم المطالبات الصافية على الأصول الأمريكية؟ بمعنى آخر، فإن النظرة المستقبلية للتجارة العالمية ترتبط ارتباطًا مباشرًا بمسائل العملة. ويمكن لأوروبا أن تستخدم أجندتها لتوسيع تجارتها مع بقية العالم لتعزيز جاذبية اليورو. لكن ذلك يتطلب أكثر من مجرد تبنى أجندة تجارية — مثل تمرير اتفاق التجارة مع كتلة «ميركوسور»، على سبيل المثال. بل يجب أيضًا توفير أدوات مالية تشجع على إجراء المعاملات باليورو، من خطوط المبادلة مع الشركاء التجاريين إلى إطلاق عملة رقمية مخصصة لتيسير التجارة العابرة للحدود بين الشركات. كما أن توحيد أسواق الأسهم الأوروبية، وتطبيق ما يُعرف باسم «النظام الـ28» لقوانين الشركات على مستوى الاتحاد، من شأنه أن يعزز أيضًا رؤوس الأموال الخطرة المقومة باليورو. ورغم أن هذه التدابير معروفة جيدًا، إلا أن الدافع السياسى كان مفقودًا. وما هو مطلوب اليوم هو أن يدرك القادة الأوروبيون الصلة الجوهرية بين هذه الإجراءات وبين الهدف الجيوسياسى المتمثل فى الاستقلال عن تقلبات السياسات الأمريكية، وأن يفهموا أن الفرصة الآن، وأن الوقت لا ينتظر.