عبد اللطيف أجدور إن من أفشل السياسات العمومية في الدول والحكومات، تلك التي تنتظر الفواجع لتعري عن مكامن الخلل في اختياراتها الكبرى، وتلك التي لا تكتشف المخاطر الاجتماعية والأخلاقية التي تتهدد كيانها إلا بعد سقوط ضحايا، كما في حادث الأستاذة هاجر شهيدة المعرفة والجهل في آن. تتعدد القرائن التي تنفي أن تكون واقعة الفقيدة حادثا معزولا، لا يحمل لنا بين ثناياه أية رسائل، إذ إن غزارة العنف المتكرر بمحيط المؤسسات التعليمية مؤخرا، صار يوذن بموسم حصاد وفير، من المآسي الاجتماعية والأخلاقية، حصادَ سنواتٍ عجاف من السياسات العمومية المفتقدة لتصور واضح، العاجزة عن مواكبة التحديات الراهنة التي أصبحت تواجهها المجتمعات، خاصة في التربية، بعد التحولات الجذرية التي شهدتها مفاهيم مثل الأسرة والقدوة والمدرسة والأخلاق. إن التراخي في مراقبة انفتاح المراهقين على المحتوى الرقمي العنيف، والتسامح اليومي مع التهديد وتبادل العنف الرمزي على مواقع التواصل، التي تعتبر في عالم اليوم، المرآة المثلى للكشف عما تجيش به صدور الأبناء، أدّى إلى تصريف هذا العنف في الواقع باستعمال شفرات الحلاقة، وسكاكين الأضاحي، وسواطير مستلهمة من مسلسلات حروب شمال أوروبا التاريخية التي لا تتماشى مع التوجهات الأصيلة للتربية السلمية. إن تلك الوسائط، إلى جانب ألعاب العنف الإلكترونية، والبثوث الحية الحبلى بالعنف والتفاهة، أفرزت، وما تزال، جيلا هجينا بلا هوية، ولا قيم، والأكيد، بلا مستقبل. إن ما أُفَضِّل تسميتها بالمخدرات الرقمية، من ألعاب القتل، والإيحاءات الجنسية، واللغة الساقطة التي تبثها حسابات "مؤثرين" بلا ثقافة ولا مشروع، أصبحت جميعها تشكل بيئة بديلة موازية، أقوى من المدرسة، وأكثر تأثيرًا من الأسرة، وأسبق من الدولة في الوصول إلى ذهن الطفل. يقول ألفين توفلر في كتابه صدمة المستقبل: "الأجيال الجديدة تواجه واقعًا تكنولوجيًّا لم تُخلق مؤسساته التربوية بعد، ولا تملك أدوات التعامل معه." إن المناداة بمقاربة زجرية، معزولة، بإصدار أحكام سجنية قاسية، كما في حادثة الطالب أنور، والأستاذة هاجر، وتلميذ شفشاون الذي قتله زميلاه، وتلميذة سد سمير ضحية المخدرات، لن تجفف، وحدها، منابع الأزمة. بل إن التعاطي القضائي مع هذه الأحداث المأساوية، وإن كان ضروريًا، يبقى حلًا متأخرًا، ومحدود الفاعلية. فالأحكام القضائية لا تُنهي الأزمة، بل تسجلها في أرشيف الذاكرة، بينما الجذور تستمر في التغول. حين كتب الفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا إي غاسيت ذات مرة: "نحن في خطر، لأن نصف متعلم قد يدمّر أكثر مما يفعل جاهل." كان يصف الحال التي وصلنا إليها بالضبط. لذا فإن الدولة، عبر اختياراتها التربوية والأمنية والإعلامية الكبرى، لا بد أن تمارس سلطتها الأخلاقية، في البيت أولا، والمدرسة بمناهجها ثانيا، وفي الإعلام ومنصات الأنترنت عبر الرقابة ثالثا، كفيل بتخفيف موجة العنف، التي أضحت، بدون مبالغة، أزمة وطنية عاجلة، يجب معها التحرك قبل تحول المدارس التي يراد لها أن تكون ريادية إلى فضاء ينتج ويستقبل العنف بكل مستوياته. في كتابه الجميل "إميل أو التربية" Émile ou l'éducation, 1762 يقول جون جاك روسو: "التربية لا تهدف إلى صنع عباقرة، بل إلى صنع بشر صالحين، قادرين على العيش بحرية وعدل." وهي رسالة واضحة لا تحتاج تفلسف: دور المدرسة الرئيسي تربية أجيال صالحة سوية، والبقية تأتي نتيجة طبيعية للانضباط والعمل. فلنوقف النزيف.، قبل أن تُصبح المدرسة فضاءً لتفريغ الرغبة في القتل، بدل أن تكون مصنعًا للحياة.