تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق هناك شعراء يعبرون في المشهد كنجومٍ ساطعة ثم ينطفئون، وهناك من يبنون حضورهم كما تُبنى الحجارة في جدار بيتٍ قديم: ببطء، وبيدٍ تعرف أثر الزمن. إبراهيم داود من هذا النوع الأخير. ليس شاعرًا يلهث خلف الضوء، بل يكتفي بأن يضيء القصيدة ويمضي، كما تفعل شمعة صغيرة في غرفةٍ غارقة بالصمت. ولد في الريف، وخرج منه دون أن يغادره تمامًا. بقيت في لغته تلك الرهافة الريفية، التي ترى في تفاصيل اليومي ما يستحق القصيدة. لم يأت إلى الشعر من بوابات النقد أو الثرثرة الثقافية، بل دخل إليه كما يدخل شخصٌ عادي إلى المعبد، بقدمين حافيتين وقلبٍ خائف. قصيدته لا ترفع صوتها، ولا تتباهى بمعجمها. لكنها تعرف طريقها إلى القلب. هو شاعر اللمحة، لا الخطابة. شاعر النظرة القصيرة، لا البيان الطويل. حين يكتب، كأنما يُمسك بخيطٍ غير مرئي يربط القارئ بالحياة من جهةٍ أكثر هشاشة. في دواوين مثل تفاصيل وأنت في القاهرة، يكتب عن المدينة، عن الحزن، عن الحب، عن الغياب، دون أن يرفع راية أيٍّ منها. لا يحبّ الانفعالات الجاهزة، ولا يثق في الدموع السهلة. لغته تشبه تنفّسًا عميقًا وسط الضوضاء، تنبّهك إلى ما كنت تراه دون أن تدرك أنه يُرى. الكتابة عند داود ليست مجرّد مهارة، بل موقف. لا يتعامل مع الشعر كحرفة، بل كطقسٍ له هيبة. في إحدى مقابلاته يقول: الشعر هو الفن الذي لا يُكتب إلا شعرًا. جملة تُلخّص مشروعه: الإيمان بالشعر من حيث هو شعر، لا مادة خام لرواية، أو تعليق سياسي، أو تمرين بلاغي. كل هذا يتجلى في اختياراته، في صمته، في ابتعاده عن صخب الجوائز حتى وهو يفوز بها، وفي إحساسه بأن الشعر ليس استعراضًا، بل استجابة خفية لما لا يُقال. كأنّ كل قصيدة لديه محاولة لإنقاذ شيءٍ صغير من الضياع: لحظة، إحساس، ظلّ على الجدار. حين تقرأ إبراهيم داود، لا تخرج بانطباعٍ حاسم، بل بشيءٍ يشبه الوَجَل. كأنك تكتشف أنك نسيت أن ترى. وكأن القصيدة ليست غاية، بل مرآة تعكسك وأنت لا تدري. ومن بين كل هذا البساط، يبقى أثره، كغبارٍ خفيف على الذاكرة، لا يُمحى بسهولة.