يُعَدُّ القضاء أحد أعمدة الدولة الحديثة، حيث يضمن تحقيق العدالة، وحماية الحقوق، وتعزيز السلم المجتمعي، إلا أن عملية التقاضي ليست مجرد وسيلة قانونية لحل النزاعات، بل هي أيضًا نشاط اقتصادي له تكاليفه وعوائده، فالرسوم القضائية تشكّل جزءًا مهمًا من نظام العدالة، لدورها في تمويل الجهاز القضائي وتوجيه سلوك المتقاضين.
في مصر، تُحدد الرسوم القضائية بموجب قانون الرسوم القضائية رقم 90 لسنة 1944، حيث تُفرض مبالغ مالية تختلف حسب نوع الدعوى وقيمتها. تمتد هذه الرسوم عبر مراحل التقاضي المختلفة، بدءًا من رفع الدعوى وحتى تنفيذ الأحكام، وتنقسم إلى رسوم نسبية، وثابتة، ورسوم تنفيذ، ورسوم الطعن على الأحكام.
خلال السنوات الأخيرة، أصدر وزير العدل ورؤساء المحاكم قرارات بزيادة الرسوم القديمة أو استحداث رسوم جديدة، مثل رسوم الخدمة المميكنة بالمحاكم، ورسوم النماذج المؤمّنة، ورسوم الاستعلام، ورسوم استخراج الشهادات، ومراجعة الحوافظ.
مؤمن سليم يكتب: الدَّيْنُ العالمي.. قنبلة موقوتة أم ضرورة اقتصادية؟
وقد أدى ذلك إلى زيادة الأعباء المالية على المتقاضين، خاصة في القضايا التي تتطلب تقديم مستندات كثيرة، كما انعكس ذلك على عدد القضايا المنظورة أمام المحاكم، إذ انخفضت من 15 مليون قضية عام 2019 إلى 11 مليون قضية سنويًا في 2022، متأثرة بجائحة كورونا وارتفاع الرسوم القضائية.
تهدف زيادة الرسوم إلى تغطية تكاليف تطوير منظومة العدالة، وتحديث ورقمنة المحاكم، وتحسين أجور العاملين، ومواكبة التضخم. ومع ذلك، فإن هذه القرارات لم تراعِ خصوصية مرفق القضاء، الذي يرتبط بالحقوق الدستورية والسلم المجتمعي.
مؤمن سليم يكتب: الاقتصاد الرقمي.. محرك هام للنمو والتطور
كما أن الرسوم القضائية قد تكون سلاحًا ذا حدين؛ فمن جهة، يمكن أن تحدّ من الدعاوى الكيدية وتخفف الضغط على المحاكم، ومن جهة أخرى، قد تشكل عبئًا على الأفراد والشركات الصغيرة، مما يدفع البعض للعزوف عن التقاضي حتى في الحالات التي يستحقون فيها تعويضًا أو إنصافًا قانونيًا.
يؤثر النظام القضائي، بما يشمله من الرسوم، على بيئة الاستثمار في مصر، حيث يبحث المستثمرون عن نظام قضائي سريع وفعال وبتكلفة معقولة. فكلما كانت إجراءات التقاضي مكلفة أو بطيئة، انعكس ذلك سلبًا على جاذبية البيئة الاستثمارية.
ولتحقيق التوازن بين العدالة وتحفيز الاستثمار، من الضروري:
- إعادة هيكلة الرسوم القضائية عبر قانون جديد يراعي القدرات المالية للأفراد والشركات.
- استكمال رقمنة المحاكم لتسريع إجراءات التقاضي وتقليل تكلفة الإجراءات الورقية.
- تشجيع الحلول البديلة للنزاعات مثل التحكيم والوساطة، من خلال تقديم حوافز قانونية وضريبية.
- تعزيز كفاءة تنفيذ الأحكام، إذ لا قيمة للحكم دون تنفيذه بسرعة وشفافية، وهو دور أساسي تحتكره الدولة.
يمثل التقاضي جزءًا أساسيًا من البنية الاقتصادية والقانونية لأي دولة. ومن خلال تبنّي سياسات توازن بين فرض رسوم قضائية معقولة وضمان سهولة الوصول إلى العدالة، يمكن تحسين مناخ الأعمال وتعزيز ثقة الأفراد والمستثمرين في النظام القانوني. يبقى التحدي الرئيسي هو تطوير نظام قضائي أكثر كفاءة وشفافية لدعم التنمية الاقتصادية والاستثمار في مصر.
0 تعليق