أحمد فرحات تواجه القارة الأوروبية تهديداً وجودياً يتجاوز مسألة وقف الحرب في أوكرانيا، ليشمل إعادة صياغة استراتيجيتها الدفاعية بعيداً عن الولايات المتحدة، لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. إن هذا التحول الجذري يعكس بداية مرحلة جديدة في توازن القوى العالمي، ويُعد انعكاساً للتحولات العميقة التي يشهدها النظام الدولي.لقد أسفر التقارب الروسي – الأمريكي عن دفع أوروبا نحو إعادة تقييم شاملة لبرامجها العسكرية، من خلال تعزيز تسليح دولها وتطوير الصناعات العسكرية الاستراتيجية لديها، بالإضافة إلى إعادة ترتيب أولوياتها الدفاعية استعداداً للتحديات المستقبلية غير المتوقعة.في هذا السياق، تنتاب القارة الأوروبية مخاوف حقيقية من أن يؤدي الانسحاب الأمني الأمريكي المحتمل إلى فتح المجال أمام روسيا لاستعادة نفوذها في مناطق شرق أوروبا والبلقان، التي كانت سابقاً ضمن نطاق الاتحاد السوفياتي. ما قد يترتب عليه من تداعيات تهدد الاستقرار الأوروبي، وتزيد من عمق الانقسامات الداخلية، خاصة في غياب التنسيق الفعال بين الدول الأعضاء في الاتحاد.من جانب آخر، تُظهر فرنسا وبريطانيا مقاومة قوية للضغوط الأمريكية، ساعيتين إلى بناء استقلال استراتيجي يعزز قدرتهما الدفاعية بعيداً عن التأثيرات الأمريكية، في خطوة تهدف إلى تعزيز السيادة الأمنية للقارة الأوروبية.محاولات لتعزيز الأمن الأوروبي في مواجهة التهديدات المستقبليةوفي حين يُعتبر استقرار أوكرانيا السياسي والأمني في مواجهة موسكو أحد الأركان الأساسية لأي عقيدة دفاعية أوروبية، ترى الولايات المتحدة أن التحالف مع روسيا وتهدئة التوترات الإقليمية يعدان السبيل الأمثل لتحقيق مصالح استراتيجية مادية وتجارية حيوية، من أبرزها المعادن الثمينة في شرق أوكرانيا.وفي هذا الصدد، يعتقد القادة الأوروبيون أن على دولهم تعزيز أمنها عبر أربعة مجالات رئيسية: العسكرية، النووية، السيبرانية، وأمن الطاقة، لضمان الردع الاستراتيجي في حال حدوث انسحاب أمريكي محتمل من أوروبا، ولتجنب الفراغ الذي قد تملؤه روسيا، التي تسعى أيضاً لحماية حدودها الغربية من التهديدات الأمنية القادمة من القارة.ومع ذلك، تواجه أوروبا العديد من التحديات في تطوير استراتيجيتها الدفاعية، أبرزها الاعتماد الكبير على الصناعات العسكرية الأمريكية، حيث تستورد القارة 55% من أسلحتها من الولايات المتحدة. ومن هنا، يتطلب تنفيذ هذه الخطة استثماراً ضخماً قد يصل إلى 800 مليار يورو، وفقاً لما أشار إليه بيان رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في بداية شهر آذار/مارس.في هذا السياق، تطالب الولايات المتحدة الدول الأوروبية بزيادة مساهمتها العسكرية في حلف الناتو لتصل إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة، بينما النسبة الحالية لا تتجاوز 2.5%.سيناريوهات المستقبل الدفاعي الأوروبيومع هذه التحولات الجيوسياسية العميقة، تجد أوروبا نفسها أمام ثلاثة سيناريوهات رئيسية. الأول، يتمثل في الانفصال الاستراتيجي عن الولايات المتحدة، مما قد يسهم في تعويض الفجوة الناتجة عن توقف الدعم الأمريكي لأوكرانيا، عبر زيادة الميزانيات العسكرية وتعزيز التعاون مع دول غير أوروبية مثل اليابان وكندا وأستراليا.أما السيناريو الثاني، فيتمثل في القبول التام بالمشروع الأمريكي في أوكرانيا، وهو ما قد يؤدي إلى فشل السياسة الدفاعية الأوروبية، فتجد القارة نفسها في مواجهة روسيا بمفردها، في ظل انقسامات حادة بين مؤيدي ومعارضي النهج الأمريكي، مما قد يؤدي إلى تهديد الوحدة الأوروبية.أما السيناريو الثالث، فيتمثل في الدخول في التسوية الروسية – الأمريكية مع ضمانات أمنية واضحة لأوروبا، مما قد يفضي إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا، مع الإبقاء على التعاون الوثيق بين واشنطن والاتحاد الأوروبي. وبدلاً من منح أوكرانيا عضوية في الناتو، يمكن استبدال ذلك بالتزامات أوروبية لصالح كييف، تشمل إنشاء قواعد عسكرية وتزويدها بالأسلحة الدفاعية اللازمة.وأمام هذه المتغيرات الجيوسياسية الكبرى، تظل أوروبا في حالة تأهب حيال التحولات الأمريكية وتأثيراتها المحتملة على العلاقات بين الجانبين، مما يفرض عليها ضرورة التكيف مع التغيرات في النظام الدولي بشكل واقعي، لضمان حماية أمنها السياسي ووحدتها الداخلية.كندا تتزعم الحشد ضد روسيا في ظل انقسامات مجموعة السبع إثر التصريحات الأمريكية الجديدةوفي خضم هذه التوترات، تحتضن كندا التي تتولى رئاسة مجموعة الدول السبع الكبرى، اجتماعاً هاماً لوزراء خارجية المجموعة على مدار ثلاثة أيام في منتجع فاخر على ضفاف نهر سان لورانس في كيبيك، حيث تلتقي القوى الكبرى لمناقشة ملفات جوهرية تؤثر تتعلق بالعلاقات البينية وبتحديد الموقف من القضايا الراهنة.تجتمع الدول الأعضاء في مجموعة السبع، التي تضم بريطانيا وكندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة، في سياق سياسي متوتر، حيث يتصاعد القلق في أعقاب عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ويشعر حلفاء الولايات المتحدة بقلق بالغ من التقارب غير المتوقع بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى جانب فرضه رسوماً تجارية مشددة على حلفائه ومنافسيه، ما يزيد من تعقيد المشهد الدولي.قبل بدء المناقشات، عقدت وزيرة الخارجية الكندية، ميلاني جولي، لقاءً منفرداً مع نظيرها الأمريكي ماركو روبيو، الذي يعتبر أحد أبرز الشخصيات في إدارة ترامب، وهو أول مسؤول من هذه الإدارة يزور كندا منذ عودة الرئيس الجمهوري إلى سدة الحكم في يناير الماضي. وأثارت مواقف ترامب التي تنم عن رغبته في جعل كندا “الولاية الحادية والخمسين” للولايات المتحدة جدلاً كبيراً، بالتزامن مع فرضه رسوما جمركية مشددة على هذه الدولة المجاورة التي تعد من أهم شركاء أمريكا التجاريين.وفي افتتاح الاجتماع الوزاري لمجموعة السبع، أعربت جولي عن أملها العميق في أن تتمكن القوى الكبرى من إيجاد سبل لمواصلة دعم أوكرانيا في مواجهة “العدوان الروسي غير المشروع” على حد تعبيرها، في وقت تمر فيه الحرب الأوكرانية بمنعطفات حاسمة.أما روبيو، فقد أصرّ على ضرورة أن تتجنب مجموعة السبع لغة “العدائية” تجاه روسيا، مشيراً إلى أن مثل هذه التصريحات قد تعيق الدبلوماسية التي يمكن أن تفضي إلى إنهاء الحرب المدمرة التي أودت بحياة عشرات الآلاف.وفيما يتعلق بالبيان الختامي للاجتماع، أكدت مصادر دبلوماسية وجود تباين في الآراء بين الولايات المتحدة والدول الست الأخرى، إلا أن المجموعة تسعى جاهدة لصياغة صيغة توافقية تحقق الإجماع حول القضايا الرئيسة، بما في ذلك تأييد الاقتراح لوقف إطلاق النار.رسوم جمركية جديدة وتهديدات بالتصعيد التجاري بين أمريكا وحلفائهاتزامن الاجتماع الوزاري لمجموعة السبع مع إعلان واشنطن عن فرض رسوم بنسبة 25% على واردات الصلب والألومنيوم، ما استدعى رداً فورياً من أكبر الشركاء التجاريين لأمريكا. وقد سارعت كل من الاتحاد الأوروبي وكندا إلى فرض رسوم مضادة بقيمة مليارات الدولارات، بينما أكدت فرنسا أنها “مستعدة للرد” على تهديدات ترامب بفرض ضرائب ضخمة على واردات النبيذ والشمبانيا وغيرها من المشروبات الكحولية.من المنتظر أن يعاني الاقتصاد الأمريكي من تداعيات سلبية إثر الإجراءات الاقتصادية التي اتخذها الرئيس دونالد ترامب، وعلى رأسها تلك المتعلقة بالرسوم الجمركية التي قد تُفاقم التضخم وتُسهم في تراجع الاستهلاك، حسبما يحذر الخبراء الاقتصاديون.أُعلنت هذه الرسوم في بداية شباط / فبراير الماضي، لتشمل دولًا كبرى مثل كندا والمكسيك والصين، ودخلت حيز التنفيذ في آذار / مارس. ورغم ذلك، يبقى الغموض يكتنف مستقبل هذه الإجراءات، إذ يتوقع وزير التجارة الأمريكي، هاورد لوتنيك، إعادة النظر في جزء منها في المستقبل القريب.وعلى إثر ذلك، اشتعلت مجددًا نار الحرب التجارية بين القوى الاقتصادية الكبرى، حيث بادرت أوتاوا وبكين باتخاذ خطوات مضادة، بينما لا تزال المكسيك في حالة ترقب.تقرير مصور | دخول الرسوم الجمركية الأميركية حيّز التنفيذ وإجراءات مضادة من حلفائها وتحذير من الصينالخبراء يرون أن استمرار فرض هذه الرسوم قد يؤدي إلى تراجع النمو الأمريكي بنحو نقطة مئوية، ويُرفع التضخم بنسبة 0.6 نقطة مئوية. هذا التوقع يوضح حجم التأثير الكبير لهذه الرسوم، التي تشمل سلعًا تقدر قيمتها بـ 1.4 تريليون دولار، مقارنة بـ 380 مليار دولار في ولاية ترامب الأولى.يُتوقع أن يظهر التأثير السريع للرسوم الجمركية على أسعار السلع، لاسيما تلك التي تتسم بارتفاع تكاليفها، مثل السيارات، التي تدخل في سلسلة إنتاج مشتركة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك. كما يُنتظر أن يتأثر القطاع العقاري سلبًا، كون نصف الخشب المستخدم في البناء في الولايات المتحدة يُستورد من كندا.وتزداد تعقيدات الوضع الاقتصادي الأمريكي مع استعداد شركاء الولايات المتحدة التجاريين لتحركات استراتيجية ضد هذه الرسوم الجديدة، والتي قد تشمل فرض رسوم على المنتجات الزراعية الأمريكية، وهو ما قد يشمل الصين وكندا في المرحلة المقبلة.وفيما يشير هذا الرد الدولي إلى نهج استراتيجي يستهدف على الأرجح الولايات المتحدة التي تهيمن عليها الأحزاب الجمهورية، يتوقع الخبراء أن تعزز هذه الحرب التجارية من التضخم وتُبطئ سلاسل الإمداد، مما يزيد من الضغط على الاقتصاد الأمريكي. المصدر: موقع المنار