دلائل اقتصاديَّة في شهر الصيام

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

يتَّسم شهر رمضان بمضاعفة الخيرات، وحلول البركات؛ فهو بحقٍّ شهر البركة الاقتصادية للأمة الإسلامية، وقد أشار النبي ﷺ إلى ذلك في قوله: "يا أيها الناس قد أظلكم شهرٌ عظيمٌ مبارك، شهر يزاد فيه رزق المؤمن" ( )، والمتدبر لآيات القرآن الكريم يجد أنَّ هناك ارتباطًا بين التقوى والبركة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}( )، ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}( ).

إلا أن هذه الزيادة في البركة والرزق تتحوَّل إلى الاستهلاك لا إلى الادِّخار والاستثمار، والمعلوم اقتصاديًّا أنَّ الاستثمار هو الابن الشرعي للادِّخار، فنحن أمَّةٌ للأسف الشديد أصبح الاستهلاك منهجها حتى صدق فينا قول الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون: "إن العرب لا يعرفون كيف يصنعون الثروة ولكنهم يعرفون جيدًا كيف ينفقونها"،  وهذا قائمٌ بالفعل، فقبل قدوم رمضان بأيام وربما بأسابيع أُعلنت حالةُ الطوارئ في البيوت والأسواق، وبدأ تزاحمُ الجميع على شراء الأغذية والسلع الرمضانيَّة، الضروريَّة وغير الضروريَّة في "تظاهرة استهلاكيَّة" مُبالَغ فيها، فتحوَّلَ شهرُ رمضان من شهرٍ للعبادة والصوم والإقلال من الملذات، إلى شهر للتسوق والتُّخمة والإسراف.

ممَّا يعني مزيدًا من الاعتماد على الاستيراد الخارجي؛ ذلك لأننا أمَّة مستهلكة أكثر منها منتجة، ولم نصل بعدُ إلى مرحلة الاكتفاء لتوفير احتياجاتنا الاستهلاكية اعتمادًا على مواردنا وجهودنا الذاتية، وهذا له بُعدٌ خطيرٌ جدًّا يتمثَّل في وجود حالة تبعيَّةٍ غذائيَّةٍ للآخر الذي يمتلك هذه الموارد ويستطيع أن يتحكَّم في نوعيَّتها وجودتها ووقت إرسالها إلينا، في شكل تدفُّقاتٍ استيراديَّةٍ كبيرة، ومن ثمَّ كان للاستهلاك أبعادٌ خطيرةٌ وكثيرة تهدد حياتنا الاقتصادية، وتهدد أمننا الوطني أيضًا.

لذلك يجب علينا في شهر رمضان أن نبتعدَ عن فكرة الكائن الاستهلاكي، والذي اقتصرت أهدافه في الحياة على الاستكثار من كلِّ شيء: الطعام والشراب واللهو والجنس، حتى صار يستهلك الوقت بنفس الكيفية والنهم التي يستهلك به سائر الأشياء، هذا الكائن الاستهلاكي يريد أن يقضيَ الوقت لا أن يستثمره، تسمعه يُحدِّث صاحبه بهذا دون خجل، دعنا نُضيِّع الوقت في شيءٍ ما، مع العلم أنَّ هذا الكائن وإن كان صاحبَ مستوىً مالي رفيع، فهو ليس غنيًّا بالضرورة، بل هو فقيرُ النفس والروح أيًّا كان مستوى معيشته،  فهو مَعنيٌّ فقط بإثراء جسمه بالملذات دون الولوج في مقتضيات وروحانيات الشهر المبارك.

فالنظام الاقتصادي العالمي لا يمكن أن يستمرَّ دون خلق مزيدٍ من الحاجات الوهميَّة لهذا الكائن  حتى يستمرَّ في البحث عن منتجاتٍ لإشباعها، فتتراكم الثروات لدى الشركات الكبرى في غيبة هذا الكائن وطلبه الاستهلاكي، فالطلب لهذه العادات الاستهلاكية هو الذي يحدد مدى الاهتمام بمنتجات وخدمات تلك الشركات، فزيادة الطلب تحفز على زيادة الإنتاج، ما يؤدي إلى حدوث نموٍّ اقتصادي لهذه الشركات، بينما تراجع الطلب على منتجاتها يؤثر سلبًا على الإنتاج؛ لهذا أصبحت تلك الشركات تسعى لتوظيف خبراء السلوك وعلماء النفس من أجل تحفيز السلوك الاستهلاكي عند هذا الكائن حتى يستمرَّ في إنفاق معظم دخله على منتجاتهم فيصير لحمه ودمه وقودًا لماكينات تلك الشركات.

لذا؛ فشهر رمضان يعدُّ فرصةً حقيقيَّةً لامتلاك إرادةٍ للتصدِّي لتلك الحالة الاستهلاك الشرهة التي تنتابنا في هذا الشهر الكريم، وصناعة نمطٍ استهلاكي رشيد يترك أثره على المستوى الاقتصادي الفردي والعام وعملية تدريب مكثّف تستغرق شهرا واحدًا، تُفهم الإنسان أنَّ بإمكانه أن يعيش بإلغاء استهلاك بعض المفردات في حياته اليوميَّة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق