اليوم الجديد

بين المصلحة والعقيدة... هل آن أوان التمايز الجدي داخل الثنائي الشيعي؟

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
بين المصلحة والعقيدة... هل آن أوان التمايز الجدي داخل الثنائي الشيعي؟, اليوم الخميس 21 أغسطس 2025 03:05 صباحاً

ليست المرة الأولى التي يُطرح فيها الحديث عن "تمايز" بين رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ و"​حزب الله​"، إذ لطالما ألمح إليه الخصوم، حتى في أكثر مراحل قوة الحزب، في الفترة التي تولى فيها السيد حسن نصر الله أمانته العامة، بينما كان آخرون يتحدّثون عن "توزيع أدوار" مدروس ومنسّق بين الجانبَين، استطاع بموجبه بري أن يشكّل "نقطة وصل" بين الحزب والدولة، وهو ما تجلّى بشكل خاص في مفاوضات حرب تموز 2006.

لكنّ اللافت في النقاش الدائر اليوم حول هذا التمايز أنّه يتعلّق بأكثر الملفات حساسية على الإطلاق: سلاح الحزب، الذي بقي طوال العقود الماضية خارج دائرة التفاوض المحلي، باعتباره من صلب "العقيدة" وليس من ضمن "السياسة"، لتفرض الحرب الإسرائيلية الأخيرة على ​لبنان​، مع ما ترتّب عليها من خسائر قاسية على الحزب، في مقدّمها اغتيال السيد نصر الله، طرحه على "الأجندة"، كما لم يحصل في السابق.

ومع أنّ "الثنائي الشيعي" لا يزال ثابتًا على التحالف إلى حدّ بعيد، بدليل الموقف الموحّد الذي أطلقه في جلستي الخامس والسابع من آب الحكوميتين، حين انسحب الوزراء المحسوبون عليه اعتراضًا، فإنّ هناك من يرى أنّ الاختلاف واقع في المضمون، فبينما يرفض "حزب الله" المسّ بالسلاح بالمُطلَق، تبدو مقاربة الفريق المحسوب على بري أكثر واقعية، ولكنها تميل إلى التريّث والتدريج، بعيدًا عن أيّ "تسرّع" قد يُفَهم من الخطوات الحكومية.

ولعلّ الكلام الصادر عن وزير المال ​ياسين جابر​، حول أولوية الدولة وحصرية السلاح، والذي قال فيه إنّ "حصرية السلاح بيد الجيش والقوى العسكرية أمر متّفق عليه"، أثار جدلاً واسعًا، وقد عرّضه لهجوم حتى من جمهور "حزب الله"، فهل كان مجرّد اجتهاد فردي في التوقيت والخطاب، أم تعبيرًا عن مراجعة داخلية في رؤية حركة "أمل"؟ وفي مطلق الأحوال، هل آن أوان التمايز الجدي داخل الثنائي الشيعي؟.

بعيدًا عن حديث البعض عن "شرخ" أو "افتراق" عند كل استحقاق، تُظهِر الوقائع أنّ الثنائية الشيعية التي بُنيت منذ أوائل التسعينيات على تفاهم عميق بين "العقل المؤسساتي" لدى نبيه بري و"العقيدة القتالية" لدى "حزب الله"، لطالما عرفت كيف تدير تبايناتها من دون أن تتحوّل إلى تناقضات. لذلك، فإنّ مجرّد قول وزير المال ياسين جابر، المحسوب بوضوح على بري، إنّ "حصرية السلاح بيد الجيش والقوى العسكرية أمر متّفق عليه"، لا يعني بالضرورة أنّ زعيم حركة "أمل" انقلب على شراكته مع الحزب، لكنه قد يعني أنه يحاول التمايز في التوقيت، أو يحضّر لمخرج سياسي يوفّق بين ثوابت الداخل وضغوط الخارج.

فبري، خلافًا لـ"حزب الله"، لا يملك ترف تجاهل التحوّلات، بحسب ما يقول العارفون، الذين يوضحون أنّ موقعه السياسي كرئيس لمجلس النواب يجعله في صلب المواجهة الداخلية، لا على هامشها. وهو يدرك أكثر من سواه أنّ الانهيار الاقتصادي والضغط الدولي والعربي على لبنان يمرّ عبر "عنق زجاجة" واحدة: ملف السلاح. ولأنّ المعادلة الإقليمية تتغير، فإنّ بري على الأرجح بات مقتنعًا بأنّ مقاربة المرحلة المقبلة لا يمكن أن تكون نفسها التي حكمت العقدين الماضيين، ولو بقيت الغايات ذاتها.

وليس خافيًا على أحد أنّ بري يشكّل "قِبلة أنظار" الوفود الدولية التي تأتي إلى لبنان، حيث يهتمّ الموفدون بما يسمعونه منه أكثر من غيره، ربما لقربه من "حزب الله"، وربما لقدرته على "المَوْنة" على الأخير، خلافًا مثلاً لرئيس الجمهورية جوزاف عون، المتمسّك بما قاله في خطاب القسم، وإن بنى علاقة جيّدة مع الحزب، أو رئيس الحكومة نواف سلام الذي "يستفزّ" الحزب بشكل غير مفهوم، حتى لو قال حرفيًا الكلام نفسه الذي تقبّله الحزب من الرئيس عون.

وفق بعض التقديرات، فإنّ بري يقدّم نفسه، ولو من دون إعلان، كـ"جسر عبور" بين ​المجتمع الدولي​ و"حزب الله". هو لا يطرح نفسه نقيضًا أو بديلاً، بل وسيطًا داخليًا يملك شرعية تمثيلية وشعبية وتاريخية، ويستطيع أن يلعب دور "الضامن" السياسي لأي صيغة تدرجية تُطرح حول مستقبل سلاح الحزب، سواء في سياق الحوار الداخلي أو ضمن تسويات أوسع تشمل الوضع الإقليمي. وهو، إذ يؤكد على الثوابت في العلن، يترك في خطابه ثغرات تأويلية تتيح له التحرك بمرونة في الكواليس.

في المقابل، يؤكد العارفون بأدبيّات "حزب الله" أنّ العلاقة مع بري في أفضل أحوالها، وكلّ ما يُحكى بخلاف ذلك غير صحيح ولا دقيق، بدليل التنسيق الكامل في المواقف بين الجانبين، بما يصبّ في المصلحة العامة، علمًا أنّ بري الذي وصفه الأمين العام السابق لـ"حزب الله" بـ"الأخ الأكبر"، لا يزال بالنسبة إلى الحزب يتمتّع بالمكانة نفسها، وهو يعبّر خير تعبير عن الموقف في المفاوضات التي يديرها، سواء في الداخل، أو مع الوسطاء والموفدين.

مع ذلك، لا يخفى شعور البيئة الحاضنة للحزب بالامتعاض من بعض المواقف، بدليل التفاعل "السلبي" مع كلام الوزير جابر مثلاً، فحتى وإن تمّ تأطير كلامه ضمن السياق المؤسساتي، إلا أنّ الحساسية من تكرار مفردة "حصرية السلاح بيد الدولة" جعلت بعض الأصوات القريبة من الحزب تتساءل: لماذا يُقال هذا الآن؟ ومن يُخاطب بهذا الكلام؟ وهل بدأ بعض الحلفاء يعدّون العدّة لتسوية قادمة قد تتطلب "قربانًا رمزيًا" من الحزب، يبدأ بطرح نقاش داخلي حول سلاحه؟

لطالما تمسّك "الثنائي الشيعي" بمقولة "وحدة المسار والمصير". لكنّ التجربة أثبتت أنّ لكلٍّ من الحزب وحركة "أمل" لغته الخاصة، بل ورؤيته السياسية الخاصة، وإنْ تحت سقف مشترك. ففي حين يستند الحزب إلى عقيدة دينية-قتالية ذات طابع إقليمي، تعتمد خطابًا تعبويًا مقاومًا، يميل بري إلى البراغماتية السياسية، وهو رجل تسويات بطبيعته، لا يجد حرجًا في المفاوضة والانخراط في الصفقات السياسية ما دامت تخدم "الاستقرار"، ولو بالحد الأدنى.

من هذا المنطلق، فإنّ ما يُطرح اليوم حول تمايز في ملف السلاح قد لا يكون إلا بداية نقاش أوسع، يواكب المتغيّرات الكبرى التي بدأت تضرب المنطقة، خصوصًا مع بدء العدّ العكسي لانتهاء الحرب على غزة وتبلور ما بات يسمّى على نطاق واسع بـ"اليوم التالي". ويرى كثيرون أنّ بري يفهم هذه اللغة، وربما يحضّر نفسه للعب دور حاسم في المرحلة المقبلة، وهو بدأ عمليًا يتبلور من خلال الورقة الأميركية وما بعد بعدها.

قد يكون أقرب توصيف دقيق للحالة الحالية داخل الثنائي هو "تمايز وظيفي محسوب"، بحيث لا يخرج بري عن إطار التحالف الاستراتيجي، لكنه يوسّع هامش حركته السياسية، في حين أنّ الحزب لا يُعارض هذا الدور، طالما أنه لا يتجاوز الخطوط الحمر. أما المستقبل، فمرتبط بعوامل عدة، فهل يتوسّع هذا التمايز ليصبح تموضعًا سياسيًا مستقلاً؟ وهل تبدأ حركة "أمل" فعلًا بإعادة تعريف أولوياتها بعيدًا عن البعد العقائدي، أم أنّ الثنائية ستبقى فوق كلّ اعتبار؟!.

أخبار متعلقة :