نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
بين خطاب قاسم وزيارة براك... هل دخل لبنان مرحلة كسر عظم سياسي؟, اليوم الثلاثاء 19 أغسطس 2025 06:05 صباحاً
في غضون أيام قليلة، انكشفت معالم مرحلة سياسية جديدة في لبنان، عنوانها الأبرز اشتباك مفتوح بين منطقين متصادمين حول طبيعة الدولة ودورها، وسقف الصراع الداخلي المسموح به. وقد تجلّى ذلك بوضوح في الخطاب الأخير للأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم، الذي وُصِف بالتصعيدي، وفي ردود الفعل الصاخبة عليه، وصولاً إلى زيارة الموفد الأميركي توم براك، والمقاربات المتباينة لها من مختلف الأطراف.
ففي خطاب أمينه العام، رفع "حزب الله" مستوى التحذير إلى الحدّ الأقصى، بتحميله الحكومة اللبنانية المسؤولية الكاملة عن أي "فتنة" قد تحدث وأي انفجار داخلي، قائلاً: "إما أن يبقى لبنان ونبقى معا وإما على الدنيا السلام"، وهو ما رأى فيه البعض تهديدًا مباشرًا لمفهوم الشراكة الوطنية، بل تلويحًا في مكانٍ ما بخيار الحرب الأهلية، إذا ما مضت الحكومة بقرار حصر السلاح بيد الدولة، وهو ما وصفه قاسم بـ"الخطيئة".
وعلى وقع الاشتباك السياسي الداخلي الذي عزّزه خطاب الشيخ قاسم، بدليل العاصفة السياسية التي أثارها على أكثر من مستوى، حطّ الموفد الأميركي توم براك في بيروت، ترافقه هذه المرّة الموفدة السابقة مورغان أورتاغوس، حيث أعاد طرح سلاح الحزب في صلب النقاش الدبلوماسي، ولكن من بوابة "مصالح الطائفة الشيعية" نفسها، معبّرًا عن أمله بأن تشهد الأسابيع المقبلة خطوات ستنعكس حياة أفضل للشعب اللبناني ولدول الجوار، على حدّ قوله.
وعلى الرغم من تأكيد براك مرّة أخرى أنّ واشنطن لا تمارس سياسة التهديد في قضية نزع سلاح "حزب الله"، وقوله إنّه قرار يخصّ الدولة اللبنانية، يبدو واضحًا أنّ مشهدًا قابلاً للاشتعال السياسي يتكوّن بين التحذير العلني والضغط الخارجية الناعم، فهل دخل لبنان فعلًا مرحلة "كسر عظم سياسي" عنوانه سلاح "حزب الله"، لكن أبعاده أعمق من مجرد سلاح؟
قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال، لا بدّ من التوقف مليًا عند خطاب الشيخ نعيم قاسم الأخير الذي لم يكن عابرًا، لا في توقيته ولا في مضمونه. فالجملة التي قال فيها: "إما أن يبقى لبنان ونبقى معًا، أو على الدنيا السلام"، تجاوزت حدود الخطاب الدفاعي المعتاد للحزب، لتضع البلاد أمام معادلة ثنائية لا تحتمل الالتباس وفق ما يقول العارفون: إما أن يُسلَّم بشرعية وجود الحزب ودوره وسلاحه كما هو، أو أن الصيغة اللبنانية مهدّدة بالانهيار.
وفقًا لهؤلاء، فإنّ هذا النوع من الطرح يعكس تغيّرًا جوهريًا في تموضع الحزب داخل المعادلة اللبنانية، ولو بدا كمحاولة لردع تصاعد خطاب سياسي داخلي وخارجي يُطالب بحصر السلاح بيد الدولة، خصوصًا بعد تزايد الضغوط على الحزب منذ بداية الحرب على غزة. لكن الأهم أن الخطاب جاء بعد زيارة رئيس البرلمان الإيراني السابق علي لاريجاني إلى بيروت، وكأنه يتقاطع مع قراءة إقليمية جديدة لوضع الحزب في الداخل اللبناني، والخشية من تآكل بيئته الحاضنة سياسيًا في المدى المتوسط.
استنادًا إلى هذه القراءة، لا تبدو ردود الفعل اللبنانية على الخطاب مجرد انتقادات شكلية، بل عكست خشية حقيقية من أن يكون لبنان قد دخل طورًا جديدًا من النزاع المفتوح على مستوى العقد السياسي. وفي هذا السياق، رأى القوى المعارضة لـ"حزب الله" في خطاب قاسم تجاوزًا للخطوط الوطنية، وتهديدًا صريحًا للسلم الأهلي، خصوصًا أن التلويح بخيارات وجودية لا يصدر عادة إلا عن قوى تعتبر نفسها خارج أي رقابة أو توازن.
المفارقة، وفق ما يقول خصوم الحزب، أن هذا النوع من الخطابات، بدل أن يردع النقاش حول السلاح، يحرّض عليه. فكلما رفع الحزب لهجته، اتسعت دائرة المطالبين بإعادة ضبط العلاقة بين الدولة والمقاومة، بل إن بعض القوى بدأت تعيد التذكير بدستور ما بعد الطائف، وبالاتفاقات الدولية التي تجعل من سلاح "حزب الله" مسألة قابلة للمساءلة، لا قضية مقدّسة، ولعلّ موقف "التيار الوطني الحر"، الحليف السابق للحزب، كافٍ للتعبير عن ذلك.
في ظل هذا المشهد المشحون، جاءت زيارة الموفد الأميركي توم براك إلى بيروت لتضيف بُعدًا خارجيًا أكثر وضوحًا، يُضاف إلى المطلب الثابت منذ انتهاء الحرب الإسرائيلية بضرورة سب سلاح "حزب الله" بالمُطلَق. فللمرة الأولى، يتحدث مسؤول أميركي رفيع المستوى، من على منبر القصر الجمهوري، عن ضرورة نزع سلاح الحزب بوصفه "خدمة للطائفة الشيعية"، وليس فقط مطلبًا سياديًا أو إقليميًا.
بالتوازي، قد يكون صحيحًا أن براك شدد على أن واشنطن لا تمارس سياسة التهديد، بل تسعى إلى مقاربة هادئة تُراعي خصوصية الساحة اللبنانية، لكنّه في الوقت نفسه، لم يترك مجالًا للغموض حين ربط الاستقرار بإعادة النظر في دور الحزب وسلاحه، علمًا أنّ السؤال عن دور إسرائيل في كلّ ذلك لا يزال مفتوحًا، خصوصًا أنّها لم تقابل الخطوات اللبنانية حتى الآن إلا بمزيد من القصف والانتهاكات والدمار والخراب.
من هنا، بدت الزيارة وكأنها رسالة واضحة، مزدوجة الاتجاه: إلى الحزب بأن الغطاء الدولي يتآكل، وإلى الدولة اللبنانية بأنّ صمتها لم يعد كافيًا، والمطلوب ترجمة القرارات سريعًا على الأرض، رغم موقف "حزب الله" السلبي. وفي الحالتين، فإن التوقيت ليس عفويًا، بل يُقرأ في سياق دولي ضاغط يتبلور أكثر فأكثر يومًا بعد يوم، وما قد يستتبعه من تفاهمات إقليمية قد لا يكون "حزب الله" مستعدًا لها بشروط غيره.
في النتيجة، من الواضح أن لبنان لم يدخل بعد مرحلة الحرب أو الصدام الأهلي، لكنّه دخل بالتأكيد في مرحلة "كسر عظم سياسي" عنوانه الملف الأخطر: سلاح "حزب الله". وهو كسر لا يتم بالقوة، بل بالاستنزاف: استنزاف الشرعية، واستنزاف التسويات، واستنزاف الرأي العام.
وإذا كانت واشنطن تراهن على الزمن والإرهاق الداخلي، فإن "حزب الله" يراهن على فائض القوة والردع. وبين الرهانين، تتآكل المؤسسات، ويتآكل معها أي أمل بإنتاج تسوية وطنية جديدة قبل الانهيار الكامل... أو قبل التسوية الكبرى التي لن تُولد إلا من رحم المواجهة.
0 تعليق