شهدت الحركات الاجتماعية في اليابان تحولاً جذرياً، حيث ابتعدت عن الأطر التقليدية ، مستفيدة من التكنولوجيا الرقمية . برزت النقابات البديلة، والحركات البيئية كوسائل جديدة للتعبير عن القضايا الاجتماعية . كما أصبحت الثقافة والموسيقى أداتين فعالتين في إعادة تشكيل مفهوم الديمقراطية والمشاركة السياسية خارج القنوات التقليدية.
يعد كتاب «السياسة البديلة في اليابان المعاصرة: اتجاهات جديدة في الحركات الاجتماعية»، الذي حرره كل من ديفيد هـ. سلاتر وباتريشيا ج. ستينهوف، والصادر عن دار نشر جامعة هاواي في 2024، ضمن 360 صفحة، إضافة مهمة إلى الدراسات المعاصرة التي تتناول الحركات الاجتماعية والسياسية في اليابان. يضم الكتاب اثنتي عشرة دراسة إثنوغرافية أصلية تسلط الضوء على التحولات التي شهدها النشاط الاجتماعي والسياسي في اليابان في القرن الحادي والعشرين. ومن خلال تقديم فهم معمق للطرق الجديدة التي يتفاعل بها الأفراد مع السياسة، يكشف الكتاب عن ديناميكيات جديدة في النشاط الاجتماعي الياباني، بعيداً عن الأشكال التقليدية للسياسة الحزبية والمؤسساتية.
أشكال جديدة من الممارسة السياسية
أصبحت الحركات الاجتماعية في السياقات الحديثة، منصة يعبر الأفراد من خلالها عن مخاوفهم ضمن إطار جماعي داعم، ما يتيح لهم فرصة تعلم كيفية الدفاع عن أنفسهم ومطالبهم. ومع صعود أجيال جديدة والتطور التكنولوجي السريع، خاصة من خلال الشبكات الرقمية، شهدت الحركات الاجتماعية في اليابان تحولات كبيرة، حيث أصبحت أكثر مرونة وأقل اعتماداً على الأيديولوجيات الصارمة والبنى المؤسسية التقليدية. يسلط الكتاب الضوء على كيفية انخراط الأفراد في أشكال جديدة من الممارسة السياسية، بعيداً عن الهياكل الرسمية، وما يترتب على ذلك من مزايا ومخاطر.
تحمل كلمة «البديلة» في عنوان الكتاب دلالتين مزدوجتين. فمن جهة، يشير إلى أشكال من المشاركة السياسية تقع خارج نطاق الأحزاب السياسية والمؤسسات التقليدية. ومن جهة أخرى، يتناول الحركات المعاصرة التي تسعى إلى إيجاد بدائل سياسية تتناسب مع الخصوصيات الثقافية والتاريخية لليابان. هذه البدائل تمثل قطيعة مع النماذج السابقة، لا سيما تلك التي برزت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي والتي غالباً ما وُصفت بأنها أدت إلى تشويه صورة النشاط السياسي، ما تسبب في تراجع الحركات الاجتماعية لمدة تقارب العقدين.
التعبير السياسي والاجتماعي في اليابان
ما يميز هذا الكتاب هو نهجه الإثنوغرافي، حيث يعتمد على دراسات ميدانية تعكس تجارب الأفراد والجماعات التي تعمل على إعادة تشكيل مفهوم السياسة والمشاركة في المجال العام. ومن خلال هذه المقاربة، يقدم الكتاب نظرة دقيقة إلى الطرق التي يعبّر بها اليابانيون عن هويتهم السياسية والاجتماعية، بعيداً عن الأشكال التقليدية للمشاركة في السياسة الرسمية.
يبحث الفصل الأول بعنوان «تحويل المجتمع المدني غير المرئي إلى سياسة بديلة» في كيفية تطور المجتمع المدني الياباني من كيان غير مرئي إلى قوة سياسية بديلة. تقليدياً، لم يكن للمجتمع المدني في اليابان تأثير كبير في السياسات الوطنية، لكن مع صعود الحركات الاجتماعية الحديثة، أصبح يمثل منصة أساسية للضغط السياسي خارج إطار المؤسسات الحزبية التقليدية. يناقش هذا الفصل كيف استخدم الناشطون التكنولوجيا الرقمية، والمنصات الإلكترونية، والتحركات الجماهيرية لخلق فضاءات جديدة للتعبير عن الرأي والمشاركة السياسية.
يشير الكتاب في الفصل الثاني «قوة شبكات النقابات البديلة»، إلى أن النقابات البديلة في اليابان تتحدّى النموذج التقليدي للنقابات العمالية، الذي كان يعتمد على شراكة وثيقة مع الشركات الكبرى. يركز هذا الفصل على كيفية إنشاء شبكات نقابية جديدة تدافع عن حقوق العمال غير المستقرين، مثل العاملين بعقود مؤقتة والعمال المستقلين. تعد هذه النقابات منصة لتمكين الفئات المهمشة في سوق العمل، وتوضح كيف تمكنت من تحقيق مكاسب عبر أدوات جديدة مثل الحملات الإعلامية والتضامن العابر للحدود. ويركز الفصل الثالث «الاتحاد هو الأمل - تعبئة العمال غير المستقرين» على فئة الـ «فريتر»، وهم العمال اليابانيون الذين يعملون في وظائف غير مستقرة، ولا يتمتعون بحقوق وظيفية كافية.
يعرض الفصل كيف تمكن هؤلاء العمال من تنظيم أنفسهم في حركات جماعية تطالب بحقوقهم، مستفيدين من شبكات الدعم البديلة التي تقدمها المنظمات غير الحكومية والجمعيات المحلية.
يستعرض الفصل الرابع «التشرد، الفن، والنشاط في اليابان من أوائل التسعينيات حتى اليوم» كيف ارتبط التشرد في اليابان بالحركات الاجتماعية الحديثة، حيث أصبح الفن وسيلة للتعبير عن المهمشين، ووسيلة لمقاومة التهميش السياسي والاجتماعي. من خلال دراسة مبادرات فنية يقودها فنانون مشردون أو متضامنون معهم، يكشف الفصل عن كيفية تحويل الفضاءات العامة إلى أماكن للمقاومة الرمزية، من خلال العروض الفنية والمعارض التي تعكس واقع المشردين في اليابان.
ويركز الفصل الخامس «الحركات البديلة للطاقة في اليابان - تطور حركات القوى المجتمعية» على الحركات البيئية والطاقة البديلة في اليابان، حيث يسعى الناشطون إلى الحد من الاعتماد على الطاقة النووية والترويج لمصادر الطاقة المتجددة. يناقش الفصل كيف تمكنت المجتمعات المحلية من إنشاء حركات شعبية تدعم الطاقة المستدامة، وذلك عبر مبادرات مدنية وشراكات مجتمعية لتطوير مشاريع طاقة نظيفة، بعيداً عن هيمنة الدولة والشركات الكبرى.
يتناول الفصل السادس «الاستمرارية بعد التوقف المؤقت - تفكيك هياكل التعبئة والتغيير الجيلي في دورات الاحتجاج» التغيرات الجيلية داخل الحركات الاجتماعية، موضحاً كيف يمكن للحركات أن تستمر رغم فترات الركود أو التوقف. يدرس الفصل كيف قامت الحركات الحديثة بتفكيك الهياكل القديمة، وإعادة بناء استراتيجياتها وفقاً لمتطلبات الأجيال الجديدة، التي تختلف في طرق التعبير وأساليب الاحتجاج عن الجيل السابق من الناشطين.
أما الفصل السابع «من أُمّ مستاءة إلى أُمّ ناشطة - مسار المشاركة في الحركات الاجتماعية بعد الكارثة النووية في اليابان» يحكي قصة تحول الأمهات اليابانيات من مجرد مشاهدات إلى ناشطات في الحركات الاجتماعية بعد كارثة فوكوشيما النووية. يستعرض كيف تطورت حركات الأمهات لتصبح قوة رئيسية تطالب بإصلاحات بيئية وصحية، وضغطت على الحكومة لتغيير سياسات الطاقة النووية في البلاد.
ويركز الفصل الثامن «الحركات اليمينية الجديدة كسياسة بديلة» على الصعود المتزايد للحركات اليمينية الجديدة في اليابان، والتي تستخدم أدوات مشابهة للحركات التقدمية، لكنها توظفها لخدمة أجندات قومية ومحافظة. يناقش كيف أصبحت هذه الحركات جزءاً من المشهد السياسي، وما الدوافع التي أدت إلى تنامي دعمها بين فئات المجتمع المختلفة. ويبحث الفصل التاسع «مناهضة العنصرية قبل وبعد فوكوشيما» في تطور الخطاب المناهض للعنصرية في اليابان، سواء قبل كارثة فوكوشيما أو بعدها. يستعرض كيف أنشأت الحركات الاجتماعية منابر لمحاربة العنصرية ضد الكوريين المقيمين في اليابان، والمهاجرين، والمجتمعات المهمشة، وكيف تغيرت استراتيجيات هذه الحركات بمرور الوقت.
ويقدّم الفصل العاشر «باللون الوردي - النشاط المناهض للطاقة النووية في اليابان بعد فوكوشيما وإعادة تشكيل منظمة اليسار الجديد» تحليلاً لحركة «اليسار الجديد» التي أعادت تشكيل نفسها بعد كارثة فوكوشيما، حيث تبنّت استراتيجيات جديدة لمناهضـة الطاقة النووية من خلال التحركات الجماهيرية، والضغط السياسي، والتوعية البيئية.
يستكشف «الفصل الحادي عشر» تعبئة التقاليد الموسيقية في المقاومة المناهضة للطاقة النووية في اليابان بعد فوكوشيما، كيف لعبت التقاليد الموسيقية اليابانية دوراً في المقاومة الثقافية ضد الطاقة النووية، حيث استخدمت الفرق الموسيقية والشعراء والفنانون تقنيات موسيقية تقليدية للتعبير عن الرفض الشعبي للسياسات النووية.
ويختتم الكتاب بالفصل الثاني عشر «أخبرني كيف تبدو الديمقراطية - استخدام الموارد الثقافية لخلق بدائل ليبرالية» ليستكشف كيفية استخدام الأدوات الثقافية كوسيلة لبناء تصورات جديدة للديمقراطية. يناقش كيف استطاعت الحركات الاجتماعية في اليابان استخدام الثقافة كأداة للتغيير، عبر الفن والموسيقى والأدب، لبناء بدائل ليبرالية أكثر شمولية.
يعد الكتاب مساهمة مهمة في فهم الديناميكيات المتغيرة للحركات الاجتماعية في اليابان، وهو جدير بالاهتمام لمن يسعون إلى تحليل الأطر الجديدة للنشاط السياسي خارج القنوات التقليدية، وتأثير التحولات الرقمية والثقافية في مسارات العمل الاجتماعي والسياسي في المجتمعات الحديثة.
السـياسة البـديلة في اليــابان المعـاصـرة

السـياسة البـديلة في اليــابان المعـاصـرة
0 تعليق