في عرضها الكثيف والمحمّل بالدلالات الرمزية «ميديا: الفراغ الأحمر»، تعيد الكاتبة والمخرجة اليونانية صوفيا ديونيسوبولو تقديم واحدة من أكثر الشخصيات التراجيدية اشتغالاً عليها في التاريخ الإنساني: «ميديا» لا بوصفها أيقونة من الماضي، بل مرآة حارقة للواقع، وصرخة من قلب المرأة التي تواجه الانهيار.
في العرض الذي قُدم في مهرجان الفجيرة للمونودراما، تتحرّر «ميديا» من نص يوربيديس الكلاسيكي لتدخل فضاءً بصرياً وشعرياً عالي التجريد، يتشابك فيه المسرح الجسدي بالرمزية الحداثية، حيث لا تغدو الحكاية مجرّد سرد، بل بناء بصري صوتي متكامل.
سردية العرض تقود كل شيء. لا نص تقليدياً، بل جسد ممثلةٍ وحيد يتحمّل عبء التاريخ والمسرح معاً. ولعلّ أبرز ما يرسّخ هذا الانطباع هو اللباس الرمزي الذي ارتدته ميديا، والمصمم كشبكة من السلالم المتقاطعة على الجسد، تنتهي عند الرأس بقفص شبيه بالسجن، تتوجه دائرة مضيئة توحي بالنورانية في مزيج من القداسة والقيد. وبين الأحمر والأسود ينقسم اللباس، ليعكس الصراع الداخلي الذي يفتك بميديا بين الغضب والانكسار، بين الأمومة والذنب.
التحوّل يبدأ عندما تتحرر ميديا. منذ تلك اللحظة، لم تعد الخلفية المسرحية هي التي تستقبل خيالها، بل الجمهور ذاته. حضورها ينعكس في عيوننا، لا في عمق الخشبة.
تجسدت ميديا بأداء بالغ الكثافة اعتمد على ثباتها في نقطة واحدة طيلة العرض، تدور حول نفسها، كمن يحفر في جسده ذكرى الخيانة. هذا الثبات لم يكن سكوناً، بل حركة دائرية داخليّة تُصيب المشاهد في القلب كما تفعل الخطيئة تماماً.
تشنّج الحركة وانقباض الجسد حمّلا «ميديا» عبء الخطأ والمأساة، فيما كانت تلوينات اللغة اليونانية التي نطقت بها الممثلة، قادرة على أن تنقلنا إلى زمن ميديا الأصلي، الذي لم تفارقه الأسطورة ولا رحل عنه الذنب.
«ميديا» هذه ليست قاتلة فقط. بل هي بنية رمزية معقدة، نظام مضاد للسرديات السائدة: الأمومة، الطاعة، الغفران. هنا، يتحوّل «الفراغ الأحمر» من عنوان شعري إلى استعارة وجودية، تُجسّد النزيف الداخلي، الغضب، والفقدان، وكأن العرض يسأل: من يصنع الوحش؟ هل هو الحب حين يُخان، أم المجتمع حين يُسكت الألم؟ في زمن تتزايد فيه الحاجة لمسرح يعيد مساءلة الإنسان ومفاهيمه، يقدّم عرض «ميديا: الفراغ الأحمر» تجربة مسرحية مونودرامية خالصة، تحقّق كثافتها من الاختزال الجسدي واللعب بالتجريد، وتمنح جسد الممثلة سلطة كاملة لسرد الحكاية، أو ربما كسرها.
«ميديا: الفراغ الأحمر» تراجيديا تتجدد في جسد سجين

«ميديا: الفراغ الأحمر» تراجيديا تتجدد في جسد سجين
0 تعليق