الشارقة: أحمد صالح
كانت محطة «مير» السوفيتية أول محطة فضائية مدارية متعددة الوحدات في العالم، وانتهى عملها منذ 25 عاماً في 23 مارس عام 2001، حيث تم إخراجها من المدار وإغراقها في المحيط الهادئ، بعدما صمدت 15 عاماً في المدار، أي ثلاثة أضعاف عمرها الافتراضي. وتجاوزت مدة الاتحاد السوفيتي الذي أطلقها إلى الفضاء.
وكانت هذه أول مرة يتم فيها التحكم في خروج جسم فضائي بهذا الحجم الكبير (وزن المحطة 140 طناً) من المدار بشكل آمن وإغراقه في منطقة محددة من محيطات العالم.
وبقيت محطة «مير» في المدار الأرضي لمدة 15 عاماً بدلاً من الأعوام الخمسة المخطط لها. وخلال هذه الفترة زارها 104 رواد فضاء من 12 دولة ضمن 28 بعثة فضائية.
وكانت «مير» أول محطة مدارية تُبنى على مبدأ الوحدات القابلة للتوسع، حيث يمكن إضافة وحدات أخرى إلى الوحدة الأساسية حسب المهام المطلوبة.
وسجلت «مير» أرقاما قياسية عالمية في مدة البقاء في المدار، وعدد مرات الخروج إلى الفضاء المفتوح، وطول مدة الإقامة في الفضاء. وعند توديع المحطة في رحلتها الأخيرة، لم يتمكن العاملون في مركز القيادة من حبس دموعهم. وكانت هذه المحطة علامة فارقة في تاريخ دراسة الفضاء.
و«مير» كانت محطة مدارية مأهولة سوفيتية الصنع، وهي أول محطة فضائية القابلة للتوسع في العالم، والثامنة التي أنشأها الاتحاد السوفيتي ووضعها في المدار الأرضي. سبقتها محطات «ساليوت-1» (1971)، و«ساليوت-2» (1973 ولم تُستخدم للبعثات المأهولة بسبب فقدان الضغط)، و«ساليوت-3» (1974-1975)، و«ساليوت-4» (1974-1977)، و«ساليوت-5» (1976-1977)، و«ساليوت-6» (1977-1982)، و«ساليوت-7» (1982-1991).
كان طول محطة «مير» نحو 30 متراً ووزنها أكثر من 140 طناً (مع مركبتيْن ملتحمتين)، منها 11.5 طن مخصصة للأجهزة العلمية.
وبلغ إجمالي حجم أقسام المحطة نحو 400 متر مكعب، بينما بلغت مساحة الألواح الشمسية 76 متراً مربعاً. وكان المدار التشغيلي للمحطة على ارتفاع يراوح بين 320 و420 كيلومتراً.
محطة أسطورة
كانت«مير» أسطورة في وقتها الخاص تعكس أمجاد روسيا الفضائية الماضية ومستقبلها كقائدة في مجال الفضاء.
واستضافت عشرات من أفراد الطاقم والزوار الدوليين. أنتجت أول محصول قمح يُزرع من بذرة إلى بذرة في الفضاء. كانت مسرحاً للقاءات سعيدة، ومآثر شجاعة، ولحظات من الذعر، وشهور من العزيمة العنيدة. عانت من حرائق خطرة، واصطدام كاد أن يُدمرها، وفترات مظلمة من الانهيارات الخارجة عن السيطرة.
رمز للأمجاد
كانت مير رمزاً لأمجاد روسيا الفضائية الماضية ومستقبلها الواعد كقائدة في هذا المجال. كما كانت أول شراكة تقنية واسعة النطاق بين روسيا والولايات المتحدة بعد نصف قرن من العداء المتبادل.
بالنسبة للروس، كان اسم «مير» بحد ذاته يحمل معنىً ومشاعر وتاريخاً. تُترجم كلمة «مير» إلى الإنجليزية بمعنى «العالم» و«السلام» و«القرية»، لكن ترجمة كلمة واحدة تُفقد معناها الكامل. تاريخياً، بعد مرسوم التحرير عام 1861، كانت كلمة «مير» تُشير إلى مجتمع فلاحي روسي يمتلك أرضه الخاصة. بعد الثورة الروسية عام 1917، حل نظام المزارع الجماعية المملوكة للدولة محل «مير».
لطالما انبهر رواد الفضاء الذين حالفهم الحظ بالسفر إلى مير بمظهرها. ومع ذلك، ظلت مير صعبة الوصف. وصفها أحدهم ذات مرة بأنها «لعبة تينكر تزن 100 طن»، وهو مصطلح يُذكرنا ببناء مير. بإضافة وحدات على مر السنين، ثم إعادة ترتيبها أحياناً، بنى الروس أغرب وأكبر هيكل شوهد في الفضاء الخارجي على الإطلاق. دارت محطة الفضاء، التي تسير بسرعة متوسطة تبلغ 17.885 ميلاً في الساعة، على ارتفاع نحو 250 ميلاً فوق الأرض. كانت مير عظيمة وأنيقة، ومتناقضة وغير مألوفة في آن واحد.
حشرة يعسوب
في مظهرها الخارجي، شُبّهت مير أيضاً بحشرة يعسوب بجناحيها الممدودتين، وبقنفذٍ يستطيع عموده الفقري اختراق بدلة رائد فضاء. شبّه رائد الفضاء جيري لينينجر، من ناسا-4 مير، مير بست حافلات مدرسية متصلة بعضها ببعض.
في الداخل، كانت مير تُفاجئ الناس أيضاً، حتى عندما ظنوا أنهم مستعدون للمنظر. بحلول الوقت الذي وصل فيه الأمريكيون إلى مير - بعد قرابة عقد من عمرها - كانت المحطة قد أصبحت مملوءة بالمعدات القديمة والمعطلة وأكياس القمامة العائمة. خلال حياة مير، لم يُطوَّر أي حل مناسب لمعالجة مشكلة التخزين. بدت مير أشبه بجحر أرانب معدني، أو كما وصفها مايك فويل، «أشبه ببيت طلابي، لكنه أكثر تنظيماً وأفضل عناية».
مع ذلك، كانت مير موطناً وملجأً لطاقمها، وكان مظهرها بالنسبة لهم يعتمد على وجهات نظرهم ومواقفهم. ذكّرت أدوات التحكم العاجية في القاعدة ديفيد وولف بقصص الخيال العلمي الكلاسيكية، مثل «آلة الزمن» لـ إتش جي ويلز. بعد جولة حول كبسولة سويوز الضيقة، كتب جيري لينينجر: «بالنظر إلى المحطة، رأيت شعاعاً وحيداً من الضوء يتلألأ عبر نافذة الميناء ويحيط بطاولة الطعام. تركنا بعض الطعام للعشاء. كانت تلك هي المرة الوحيدة خلال إقامتي في الفضاء التي بدت فيها مير دافئة وجذابة وواسعة. ذكّرتني بفتح باب كوخ صيفي مُغلق لفصل الشتاء، والنظر إلى الداخل، ورؤية محيط مألوف».
وحطمت مير كل الأرقام القياسية في رحلات الفضاء طويلة الأمد.
سادت مخاوف عالمية من اصطدام مير بمناطقَ مأهولة. مرّ مسار مير فوق كل مدينة تقريباً على الأرض. دارت مداراتها فوق كل مكانٍ بين خطي عرض 51 درجة شمالاً وجنوباً، تقريباً ضمن حدود جزر ألوشيان شمالاً وجبال الأنديز الجنوبية جنوباً. هبطت قطعٌ من مركباتٍ فضائيةٍ كبيرةٍ سابقةٍ في كندا وأستراليا وجنوب أمريكا الجنوبية، ولحسن الحظ دون أي أضرارٍ أو خسائر.
الحصول على تأمين
بالنسبة لمحطة مير، حصلت روسيا على تأمين في حال تسبب خروجها من المدار بأي أضرار مادية. راقبت اليابان الوضع عن كثب لأن المدار النهائي سيحمل مير فوق الدولة الجزرية. زودت الحكومة الأمريكية روسيا ببيانات التتبع والمسار، والظروف الجوية، وحتى النشاط الشمسي، الذي قد يتسبب في تمدد الغلاف الجوي للأرض في الفضاء. على الرغم من وجود يقين كبير بإمكانية حصر الحطام في سقوطه في المحيط، نُقل عن يوري سيمينوف، رئيس شركة RSC Energia، قوله: «ليس لدينا ضمان أمان كامل».
بعد أكثر من 86 ألف دورة مدارية، عادت مير إلى الغلاف الجوي للأرض يوم الجمعة، 23 مارس / آذار 2001، الساعة التاسعة صباحاً بتوقيت موسكو. انكسرت المركبة الفضائية، التي يبلغ وزنها 134 طناً، فوق جنوب المحيط الهادئ. وسقطت بعض أجزائها الأكبر حجماً في البحر دون أن تُلحق ضرراً، على بُعد نحو 1800 ميل شرق نيوزيلندا. وأفاد المراقبون في فيجي برؤية أضواء ذهبية وبيضاء مذهلة. وهكذا، انتهت أخيراً ملحمة وبرنامج ناجح للغاية.
0 تعليق