نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
فى غزة.. الصحفى بين العدسة والرصاصة, اليوم الجمعة 7 مارس 2025 04:25 مساءً
يُحكى أن رجلًا كان يقف على جسر فوق نهر هائج، ينظر إلى المياه المتدفقة بعينين مثقلتين بالحزن. سأله عابر سبيل: لماذا تحدّق في الماء هكذا؟، فأجابه: كنت يومًا صيادًا، ثم أصبحت الغريق.
في الحروب، الصحفي هو الصياد، يطارد الحقيقة بعدسته وقلمه، لكنه في غزة هو الغريق، لا يقف على الضفة يشاهد، بل يسقط في التيار. ليس ناقلًا للحدث، بل جزءًا منه. ليس الشاهد، بل الضحية.
تخيل أنك تحمل كاميرا، تجري وسط الركام، تسمع أصوات الانفجارات، وترى السماء تمطر نارًا. أنت هنا لتروي القصة. لكن ماذا لو أصبحت أنت القصة؟ ماذا لو وجدت نفسك وسط العناوين الرئيسية، صورتك على الشاشات، واسمك في قائمة القتلى؟ في غزة، هذه ليست فرضية، بل واقع يتكرر كل يوم.
سائد أبو نبهان لم يكن جنديًا، لم يكن مسلحًا، لم يكن حتى في موقع عسكري. كان فقط يحمل كاميرته في مخيم النصيرات، يلتقط الصور، يوثق ما يحدث، لكنه لم يكن يعلم أن الصورة الأخيرة التي ستُلتقط ستكون له. رصاصة قناص إسرائيلي أنهت حياته، وكأن التصوير أصبح جريمة، وكأن الشهود يجب أن يُقتلوا كي يُمحى أثر الجريمة.
في مكان آخر، كان أدهم حسونة يسابق الوقت لنقل مشاهد القصف، لكن القصف سبقه إلى الموت. غارة إسرائيلية مزقت جسده، لم تفرق بينه وبين أي هدف آخر. لم يكن يحمل سلاحًا، لكنه كان أخطر عليهم من ذلك، كان يحمل الحقيقة، والحقيقة هنا يجب أن تُمحى.
بحسب المكتب الإعلامي في غزة، ارتفع عدد الشهداء الصحفيين إلى 204 صحفيين منذ 7 أكتوبر 2023. هذا الرقم ليس مجرد إحصائية، إنه 204 قصة لم تُكمل، 204 عدسات أُغلقت، و204 أصوات أُسكتت إلى الأبد. بعضهم استُهدف في منازلهم، بعضهم قُتل في أماكن عملهم، وبعضهم قضى وهو يركض تحت القصف، يحاول أن ينقل المشهد الأخير قبل أن يصبح جزءًا منه.
السؤال الذي لا إجابة له: لماذا يعود الصحفي كل يوم إلى الميدان، وهو يعلم أن المرة القادمة قد تكون الأخيرة؟ لماذا لا يهرب؟ لماذا لا ينجو بنفسه؟ هل هو الشغف؟ الغباء؟ البطولة؟ أم أنه ببساطة، لا يستطيع الصمت؟
حين يعود الصحفي إلى غرفته، لا تعود الحياة كما كانت. الضحكات تبدو باهتة، والمحادثات فارغة. في رأسه، لا يزال يسمع صرخات الناجين، أنين المصابين، وانفجارات لم تهدأ داخله بعد. حتى النوم يصبح معركة، فكيف تغمض عينيك وأنت تحمل في جفونك كل هذا الألم؟
الصحفي قد ينجو جسديًا، لكنه يظل محاصرًا داخل ذاكرته. يقرر أنه لن يعود، لكنه في اليوم التالي يجد نفسه هناك من جديد، في قلب المعركة، حيث كل شيء ينهار، وحيث الحقيقة وحدها تستحق أن تُقال. ليس لأنه لا يخاف، بل لأنه، ببساطة، لم يعد يملك رفاهية الصمت.
ربما لا يكون الصحفي في غزة بطلًا خارقًا، لكنه يعرف أن من يرحلون يحتاجون إلى من يروي حكايتهم. يعرف أن من يبقى يستمد شجاعته من أولئك الذين وثّقوا المأساة قبل أن يسقطوا، بعدسة لم تغمض، وكلمة لم تخن.
0 تعليق