قاهرة الخمسينات بعين يوسف إدريس

صوت الامة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
قاهرة الخمسينات بعين يوسف إدريس, اليوم السبت 22 مارس 2025 02:48 مساءً

لعل "الزمن" من أعجب مخلوقات الله، فهو ثري ومتنوع ومختلف، فلا يمكن التعامل معه بوصفه كتلة واحدة، أقصى ما نستطيع نحن بنو الإنسان، في تعاملنا مع الزمن، أن نقسمه إلى أيام وأسابيع وشهور وسنوات، ثم نهبط بالتقسيم إلى الدقائق والثواني، ولكن تظل حركة الزمن وما تفعله بنا حركة تخص كل فرد منا.

 

الشاب يبكي على سنوات طفولته، هل لأنها كانت سعيدة، أم يبكيها لأنها لم تكن سنوات مسئولية، وكانت سنوات لعب ولهو، ثم يشيخ الشاب فيبكي سنوات شبابه حيث الصحة والآمال العراض، لماذا نبكي كل ما فات؟

ظني لأنه فات ومضى.

ومن أجمل ما قرأت عن رؤية الزمن ما نسب لأمنا أم المؤمنين السيدة عائشة عليها وعلى سيدات البيت الشريف السلام، قالت عائشة عليها الرضوان: رحم الله لبيداً إذ يقول: "ذهب الذينَ يعاش في أكنافهم، وبقِيت في خلف كجلد الأَجرب"

قالت عائشة: كيف لو أدرك زماننا؟

قال عروة: رحم الله عائشة كيف لو أدركت زماننا؟

قال الزهري: رحم الله عروة كيف لو أدرك زماننا؟

قال الزبيدي: رحم الله الزهري كيف لو أدرك زماننا؟".

هؤلاء جماعة من أعلام الأمة وقد عاشوا زمن الانتصارات والازدهار والنهضة، ولكن ليس من بينهم واحد رضى عن زمانه هو، السيدة عائشة التي عاشت زمن الرسول والخلافة الراشدة، ترحمت على لبيد بن عامر لأنه تعجل في رؤيته لزمنه، فلو طال عمره وعاصر زمن عائشة لقال كلامًا مختلفًا!

ونحن الآن لو سألنا أنفسنا عن زمن الخمسينات مثلًا، فستكون إجابتنا: ما أعظم تلك الأيام؟

هل كانت عظيمة حقًا، أم لأنها مضت ولم يعد لأحداثها تأثير علينا أصبحنا نراها عظيمة؟

وأنا أعيد قراءة رواية البيضاء للراحل الكريم يوسف إدريس وجدت الإجابة.

كتب إدريس روايته ـ كما قال هو ـ في صيف العام 1955، والأحداث تدور في النصف الأول من الخمسينات، بطل الرواية "يحيي" طبيب يعمل في ورش السكك الحديدية، هو قادم من قرية من قرى الدلتا، تعلم وأقام وعمل بالقاهرة، فكيف كان يرى قريته عندما عاد إليها ليحتفل بالعيد مع أهله.

يقول يحيي "ما أكاد أصبح في قلب بيتنا، البيتِ المهدم ذي الطلاء الأبيض المصفر المتهالك، والكلب العجوز والحوش المهمل، ما أكاد أصبح وحولي كل هذا حتى أفيق، وكأننا نحيا في المدينة في حُلمٍ طويلٍ لا نفيق منه إلا حين نعود إلى قرانا. وهناك نجد الحقيقة، هناك ندرك أننا فقراء مطحونون نتستر بالحِيَل لنعيش. إننا في المدينة نحاول أن نبدو كأهل المدينة، ولأننا لسنا منهم لأننا فلاحون، نحاول أن نبزَّهم ونتفوق عليهم في ملبسهم ومعيشتهم وكأنما لندفع تُهْمة الفلاحين عنَّا، حتى إذا عُدنا وجدنا حقيقتنا الجرداء. وجدنا أصلنا وأقاربنا وجلابيبهم الرثَّة المرقَّعة، وإخوتنا الحُفاة، وأمهاتنا وهن يدارين البيضة ويبعنها للصرف على بيوتنا. حين نعود نجد هذا، ونجد نفس المشاكل التي غادرناها لا تزال قائمة ولا تزال بغير حل".

هذه هي صورة ريف الخمسينات، حفاء وفقر ومشاكل لا حلول لها، فهل كانت أيام سعيدة؟

كيف كان حال الطبيب القاهري في الخمسينات؟

كان كل دور الطبيب يحيي في خدمة المنظومة الصحية أن يمنح العمال أيام إجازة مدفوعة الراتب.

ليس مهمًا أن يكون العامل مريضًا حتى يحصل على الإجازة التي يريدها، المهم موافقة يحيي، الذي إن لم يوافق فسيفتك به العمال!

العمال فقراء ولا حقوق لهم، ولو تأخر أحدهم عن ميعاد العمل ساعة فسيتم خصم اليوم كله، وعليه فهو يدعي المرض والدكتور يقر بأحقية العامل في الإجازة المرضية!

يقول إدريس على لسان بطله يحيي: "إلى أن حدث يوم وكان يومًا ممطرًا وتأخَّر أكثر من نصف عمال الورشة، وأبلغوا أنهم مرضى، وكالعادة منحتُهم إجازات، وكانت النتيجة أن توقَّف العمل في الورشة وأبلغت الجهات المسئولة، وجاء مدير القسم الطبي وراجع دفتر الإجازات ورُوِّعَ حين وجد أن أكثر من خمسمائة عامل لديهم إسهال، و٢٠٠ أنفلونزا، وظل يقلب الدفتر ويقول بصوته الأخنف: إيه ده يا دكتور؟ دا انت عندك كوليرا في الورشة! لما ٥٠٠ يبقى عندهم إسهال لازم البلد تنقلب.

وخصم مني ثلاثة أيام وأُنْذِرْت بالفصل، ولم يتحرَّك أحدٌ لا من النقابة ولا من العمال لما حدث، وكأن الأمر لم يكن بسببهم".

هل رأيت السعادة؟

ما مر كان حال الجذور والعمل، فكيف يكون حال الإقامة والمعاش، يصف يحيي شقته الواقعة في حي بولاق القاهري فيقول: "الشارع أمامها حافل بالضجة التي تحرق الأعصاب، ضجة عشرات من خطوط الترام والأتوبيس وآلاف عربات الكارو وزعيق الباعة والمارة والكلاكسيات وميكروفونات المآتم والأفراح التي تحدث بالتبادل وعلى الأقل مرة كلَّ يوم، ضجة تبدأ في الرابعة صباحًا ولا تنتهي قبل الثالثة من صباح اليوم التالي. ثُمَّ إن المالك - سامحه الله - لكي يستفيد أكبر فائدة من المساحة، لم يجعل مدخل البيت على الشارع، ولكنه صنع له ممرًّا بنى على جانبه دكاكين وقهاوي يحملق فيك أصحابُها وروادُها ويتفحصونك، ولا عمل لهم إلا النظر إلى سكان البيت «إذ الممر لا يَعْبُره إلا السكان» وإحصاء حركاتهم وسكناتهم، وسُلَّم البيت أدهى من مدخله، حافل بزبائن المستوصف وأقاربهم ومرافقيهم، وحتى الشقة نفسها مع أنها جديدة ولكنها لا تعطي أي إحساس بالسكن أو الاستقرار، شقة لا تَصْلُح إلا لمكتب سمسار أو لمقر نقابة. وإذا كنت فيها وجرؤتَ على فتح نافذة دخلت لك منها زوبعةُ ضجةٍ تكاد تقتلعك من مكانك، ودخلت أيضًا رائحة الكبدة؛ فالشقة تقع مباشرة فوق محلٍّ متخصص في قلي الكبدة والمخ وله مخزن بجوار السُّلَّم تمامًا، مخزن مظلم تلمح من خلال ظلامه كتلًا هائلةً من الكبدة لا تعرف لضخامتها إلى أي الحيوانات تَمُتُّ، كتل تلمع في الظلام وتملأ رائحة «زفارتها» البيت كله من الداخل، وتهب رائحة قليها على النوافذ من الخارج، وأفظع ما في الأمر أن المطعم نفسه كانت له يافطة من النيون الأحمر والأخضر والأصفر، وكان صاحب المطعم السني السمين يُصِرُّ على ترْكها مضيئة طول الليل، وليتها تضيء فقط، إنها تنطفئ وتضيء أوتوماتيكيًّا، والنيون له أزيز مزعج، فضلًا عن أنواره البشعة الفجة التي تظل تتوالى وتنير الحجرة وتظلمها حتى الفجر.

ومن يوم أن سكنت وأنا أحيا في تلك الدوامة من العيون المستطلعة، والزفارة النيئة والمقلية التي تتتابع رائحتُها تتابع أضواء النيون المضيئة، ويلُفُّها جميعًا ذلك البركان من الضجة الذي يَهْدِر في الشارع طوال ثلاث وعشرين ساعة، يتلوها ويسبقها أذان الفجر الذي يُذاع بالميكروفون من مسجد سيدي أبي العلا ويحتل الساعة الرابعة والعشرين".

والآن كيف ترى حركة الزمن، بعد مرور أكثر من سبعين عامًا على كتابة الرواية التي تسجل شهادة شاهد عيان، عاش ورأى ووقعت الأحداث على قلبه لا على جلده.

 

أخبار ذات صلة

0 تعليق