نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مشاعر الانتقام تهدم الأوطان, اليوم السبت 15 مارس 2025 01:12 مساءً
تعجب كثيرون من أحوال أهل غزة، الذين ولدوا وعاشوا في شمال غزة، ثم تحت قصف صهيوني مجرم همجي لم يسبق له مثل، نزحوا إلى جنوب غزة، وفي أولى دقائق سريان الهدنة المؤقتة سارعوا مشيًا على الأقدام إلى العودة شمالًا!
وجه العجب حاضر مكشوف، فلم يعد في الشمال شمال ولا حتى جنوب، كل الشمال ككل غزة أنقاض بعضها فوق بعض، ولا وجود لأبسط مقومات الحياة، فلا بيوت ولا ماء ولا كهرباء ولا أي شيء من أشياء البنية التحتية التي بدونها تصبح الحياة قطعة من الجحيم.
لماذا عاد هؤلاء؟
لماذا كان الرجال والشبان يكبرون؟
لماذا كانت المرأة العجوز المتهالكة تجاهد ليرتفع صوتها بزغرودة الفرحة؟
الإجابة بكلمة واحدة، إنه الوطن.
الوطن الذي نظلمه عندما نتعامل معه أو ننظر إليه بوصفه حالة شعرية أو حتى شعورية، الوطن الذي نظلمه عندما نختصره في أغنية أو قائد أو انتصار.
الوطن أصعب من هذا، وأعمق من هذا، وأشد تركيبًا وتعقيدًا من كل هذا.
نعود إلى النبع الطيب، إلى سيد الخلق صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
كان محمد بن عبد الله في طفولته ثم في صباه ينعم بحماية أمه وجده، وبذهابهما تولى عمه أبو طالب حمايته، ثم في شبابه تزوج بأمنا خديجة عليه وعلى سيدات آل البيت السلام والرضوان، فحصل على حياة هادئة مستقرة لا تخلو من متع الدنيا، ثم أكرمه الله وشرفه بالرسالة، فخاصمته مكة التي كانت تحبه وتقدره ، وفجرت مكة في خصامها وفي عدائها للرسول، أصبحت مكة جمرة متقدة تحرق كل من يؤمن برسالة محمد.
كان العداء أوضح من شمس الظهيرة، لقد حاصرته مكة وكل الذين أمنوا ثلاث سنوات كاملة، وكانت نتيجة الحصار المباشرة أن سيدة مترفة مثل أمنا خديجة غادرت الحصار إلى القبر، من شدة ما لاقت من أهوال الحصار.
هذه هي مكة، الوطن، وهذا هو موقفها من فتاها الذهبي، فكيف يكون شعوره تجاه هذا الوطن؟
يقف صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الحَزْوَرةُ (اسم مكان مرتفِعٌ يُقابِلُ المسعَى مِن جِهَةِ المشرِقِ، كان سُوقًا مِن أسواقِ مكَّةَ) ثم يخاطب الوطن، يتكلم موجهًا حديثه إلى مكة فيقول:" واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ".
هل هذا كلام يقوله رجل عذبه وطنه لثلاث عشرة سنة كاملة؟
نعم مكة عذبت سيد الخلق، فليس هناك عذاب أقسى من أن تقول للصادق: أنت كذاب.
لقد محا سيد الخلق كل ساعات العذاب ونظر إلى المعنى الأعمق البعيد للوطن الذي بدون يصبح الإنسان كرة معلقة في الفراغ الكوني.
ثم يأمر الله رسوله بالهجرة، فيهاجر ومعه الذين أمنوا برسالته.
كان المهاجرون فريقين لا ثالث لهما، الفريق الأول وهو الأكثرية يضم سادة مكة وأبناء سادتها، الذين أسلموا واختاروا التضحية بمكانتهم وأموالهم وعشائرهم فى سبيل الإيمان بالدين الجديد، وهؤلاء لم يكن أحد يستطيع اضطهادهم أو تعذيبهم، مَنْ الذي يستطيع جلد عمر بن الخطاب، أو تعذيب على بن أبى طالب، أو شتم الزبير بن العوام، أو مواجهة سعد بن أبى وقاص، أو التطاول على الصديق أبى بكر؟! ما تعرض له هؤلاء من عذاب لا يتجاوز عذاب المصلح والمفكر والفيلسوف فى بيئة معادية.
الفريق الثاني وهو الأقلية كانوا من المضطهدين حقًّا وفعلاً وقولًا، وكان على رأس هذا الفريق صحابة من أمثال بلال بن رباح وعمّار بن ياسر وباقي الأرقّاء الذين أعتقهم أبو بكر الصديق.
ذهب الفريقان معًا إلى الوطن الجديد، وهنا تقول الكتب إنهم جميعًا مرضوا وأصابتهم جميعًا الحُمّى، تشخّص الكتب الأمر على أنه راجع إلى طقس المدينة الجديد عليهم، والله يعلم أن طقس المدينة ألطف من طقس مكة، ثم هم ليسوا غرباء عن طقس المدينة، لقد كانوا يزورونها كثيرًا فى زمن جاهليتهم، لقد أخطأت الكتب التشخيص، إنها حمى البعد عن الوطن وحمى افتقاده وحمى الحنين إليه.
تقول الكتب إن الصحابة كانوا فى مرضهم الشديد يجلسون فى بكاء مقيم، وكان الذي يهيج أحزانهم بشعر حارق يذكر فيه مآثر الوطن الأولى هو بلال بن رباح.
نعم بلال الرقيق الذي عذبته قريش كما لم تعذب أحدًا، بلال الذي يقينًا لم يشهد عمره بمكة فرحة واحدة، بلال الذي ليس له فى العير ولا النفير، كان أشد الجميع بكاءً على الوطن، وأكثر الجميع حزنًا على مفارقة الوطن، الوطن الذي كان يعذبه ويجلده ويضع الصخر فوق صدره، بينما ظهره يكتوى بنيران رمل مكة.
أي شيء كان لبلال فى مكة حتى يبكيها كل هذا البكاء؟
لقد بكاها حتى جفت دموعه.
أليس هذا عجيبًا؟
ولكنه الوطن الذي قد يقسو عليك أن يعذبك أو يرميك بالكذب وأنت أصدق البشر، ثم لا تستطيع أن تفلت منه ومن الحنين إليه بل ومن محبته.
قالت أمنا عائشة: فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم (من الصحابة الذين كانون يبكون من شدة الحمى) وقلت: إنهم ليهذون، وما يعقلون من شدة الحمى. فقال الرسول: "اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها، وصاعها".
الرسول يعرف أن المشكلة ليست مشكلة الحمى، المشكلة هي في ابتعاد هؤلاء عن وطنهم مكة ولذا راح يسأل الله أن يجعل منزلة المدينة في قلوب أصحابه كمنزلة مكة أو أشد.
وبعد عداء طال لسنوات، تم لرسولنا فتح مكة، فلم يأمر سوى بالرحمة وبالعفو ورد على الذي قال: "اليوم يوم الملحمة"، فقال صلى الله عليه وسلم: "اليوم يوم المرحمة".
وبعدُ فالذين يستسلمون لمشاعر الانتقام لن يبنوا وطنًا، هم على الحقيقة يهدمون ما تبقى منه.
0 تعليق