نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الخيال العلمي في الرواية, اليوم الجمعة 15 أغسطس 2025 04:18 صباحاً
نشر بوساطة فاتن عبد اللطيف العامر في الرياض يوم 14 - 08 - 2025
يُعدّ أدب الخيال العلمي من أكثر الأجناس الروائية ارتباطًا بالتحوّلات الكبرى في وعي الإنسان في العصر الحديث، لأنه لا يقتصر دوره على خلق عوالم افتراضية أو سيناريوهات مستقبلية، وإنما يُمارس دورًا أكثر عمقًا في مساءلة الوجود الإنساني، واستبصار ما هو قادم من زوايا علمية واجتماعية وفكرية. فهو أدب لا يكتفي بإمتاع القارئ وتسليته، بل يحفّزه على إعادة النظر في حاضره، من خلال بوابة المستقبل
تعالج رواية الخيال العلمي طيفا من القضايا، تبدأ من غزو الفضاء، مرورًا بالكائنات الفضائية، والسفر عبر الزمن، وصولًا إلى الذكاء الاصطناعي، وتحول المجتمعات إلى كيانات هجينة، بشرية وآلية. ورغم أن هذه الموضوعات تبدو ذات طابع علمي صرف، إلا أنها تنطوي على أسئلة عميقة تتعلق بطبيعة الإنسان، وحدود تطوّره، ومستقبله الأخلاقي والاجتماعي.
فالذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، لا يُطرح كأداة تقنية فقط، وإنما ككائن منافس للإنسان، أو حتى بديل عنه.
ومن هنا، تنشأ الأسئلة الأخلاقية والوجودية التي تجعل من الخيال العلمي أدبًا متجاوزًا للعلم، وقريبًا من الفلسفة، دون أن يفقد طابعه السردي.
واحدة من الإشكاليات النقدية التي يثيرها الخيال العلمي هي التداخل بينه وبين أنماط روائية أخرى مثل روايات المغامرة، والجاسوسية، والرعب، والأساطير. وهو تداخل أحيانًا يثري النص، وأحيانًا يُربكه أو يؤثر عليه ، خاصة حين يفقد الكاتب توازنه بين العلمي والخيالي، أو حين يُغرق النص بالتقنيات دون بناء فني متماسك.
لذلك، فإن النجاح الحقيقي لهذا الجنس الأدبي لا يكمن في استعراض المعلومة العلمية لأنه ليس علما صرفا وإنما في تخييلها فنّيًا، بحيث تتحول إلى جزء عضوي من بنية الرواية، وليس مجرد تظاهر علمي.
لقد أصبح الخيال العلمي اليوم جزءًا لا يتجزأ من الحراك السردي العربي. مع أنه بدأ يتشكّل في النصف الأول من القرن العشرين مع الروائي والمسرحي توفيق الحكيم، الذي استخدم الفن كوسيلة لاستكشاف مستقبل الإنسان العربي، في ضوء ممكنات العلم والتكنولوجيا ، لكن تزايد الاهتمام به اليوم خصوصًا مع دخول جيل جديد من الكتّاب الشباب، الذين باتوا يوظفون هذا النوع للتعبير عن همومهم، ورؤاهم لمجتمعاتهم، وقلقهم من المستقبل .
لذا لم يعد هذا النوع من الروايات عندهم متعة أدبية في حد ذاته، وإنما أصبح ضرورة ثقافية، تفرضها التحولات التقنية والاجتماعية العميقة التي يعيشونها اليوم.
إن رواج هذا الأدب وانتشاره ليس بسبب زيادة في الإقبال عليه، وإنما -ظنا لا يقينا- يدل على حاجة ملحّة لدى الأجيال الجديدة إلى رواية تُجيد التخيّل، وتحترم العقل، وتُحاور الأسئلة الكبرى بلغة فنية قادرة على الإقناع والتأثير في ظل التسارع المذهل للعلم والتكنولوجيا.
تبرز رواية الخيال العلمي كأداة فنية وفكرية في آنٍ واحد، تمنح الأدب قدرة متجددة على استشراف الزمن القادم، من خلال طرح تساؤلات تُوقظ الفكر وتنمي الوعي، فقد ينبه أو يستثير العقل أو يقترح ما يمكن أن يكون عليه المستقبل.
إن رواية الخيال العلمي لا تكتفي بأن تحلّق بنا خارج الأرض، أو تغوص في تلافيف المستقبل، رواية الخيال العلمي تعيدنا دائما إلى سؤال قديم يتجدّد: ماذا يعني أن نكون بشرًا؟
في عالمٍ تتسارع فيه الاكتشافات، وتتقلّص فيه المسافات بين الواقع والتقنية، يبدو أن الخيال لم يعد تسلية ، إنما هو ضرورة لحماية ما تبقّى من إنسانيتنا.
والكتابة الروائية في هذا النوع مواجهة للحاضر وليس هروبا منه، مواجهة له من زاوية أخرى بعيون ترى ما قد يأتي، تتنبأ وتحذّر، وتستفز، وتُشعل شرارة التفكير.
وفي زمنٍ تتكاثر فيه الأجناس السردية وتتشابك، يبقى أدب الخيال العلمي نافذة مشرعة على الاحتمال، حيث لا سقف للطموح، ولا حدود للأسئلة.
ولعل السؤال الآن ليس: "إلى أين يأخذنا هذا الأدب؟"
السؤال :هل نحن مستعدون فعلًا لما قد يكشفه لنا من أنفسنا؟ إنه أدب الاحتمال، والتساؤل، واليقظة..
* أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك فيصل
أخبار متعلقة :