اليوم الجديد

دفتر العار

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
دفتر العار, اليوم الجمعة 15 أغسطس 2025 04:18 صباحاً

دفتر العار

نشر بوساطة عايدة عبد الله في الرياض يوم 14 - 08 - 2025


في صباحات إحدى القرى الدافئة، ترى خيوط الشمس تختلط برائحة الخبز الريفي، وسط صوت هدير النهر وأجواء لا ترحم؛ حرارة شمس ساطعة وبرودة ظلٍ قاسية. ترى أصحاب المحلات يغسلون أوجاعهم بمياه تتدفق في الشوارع، مُشبَعة بأحلام وآلام السهارى على المقاهي والطرقات في الليلة الماضية، تحفهم أصوات الطيور معلنةً بركة السماء.
في زاوية من هذه القرية يقطن قاصّ يراقب المارة ويرصد أنفاسهم ليكتب قصصًا يتكسب منها المال. كان يكتب قصص جيرانه وزوجته بشكل يومي، حتى أصبح أهل القرية مادةً للتكسب؛ الكل في حالة ترقب وانتظار لقصته. كان القاصّ لا يغير في القصة ولا في ملامح الواقع، يكتب القصص كما هي وبأسماء أهل القرية ذاتها كما راقب الحدث ورأت عيناه.
كان القاصّ سجّانًا حقيقيًا، وأهل القرية يهدونه المفاتيح، يدرك أهل القرية تمامًا أنه عندما يكتب القاص قصة شخصٍ ما، فإنه يفقد سلطة تعديلها لاحقًا.
كان القاصّ يعتبر نفسه حارسًا للفضيلة في القرية، يسجل اعترافات وقصص الآخرين ويصدر أحكامًا لا رجعة فيها، كان يرى نفسه ضميرًا يمشي بقدمين عاريتين يسجل الذنوب على الجدران، ويحاصر الناس بالذنوب والخطايا، كلٌ باسمه.
نشر القاص مؤخرًا قصة ليلث ولحظات حبها المسروقة تحت نور القمر المكتمل، فأصبحت ليلث رمزًا للعار في القرية، فقدت ليلث قدرتها حتى على الكلام للدفاع عن نفسها، سُرقت منها حتى أنفاسها، آمنت بأنها عاصية متمردة مذنبة، وكانت أمها تحثها على التوبة كل مساء.
مع الوقت، فقدت ليلث قدرتها تمامًا على النطق، وأصبحت عيناها مصدر الخوف في القرية؛ عيناها اللتان تريان ما لا يُرى، مرآة للقرية، صار الناس يهربون منها في النهار، ثم يحلمون بها في الليل، كان أهل القرية يخشونها، ليس لأنها تتكلم، بل لأنها لم تعد تحتاج إلى الكلام.
بدأ أهل القرية يتجنبونها كالطاعون، لكنهم في الوقت نفسه يتعطشون لنظراتها، القاصّ كان يتابع المشهد من بعيد، كان يعلم أن ليلث صارت قصته الأنجح. لكنه أيضًا بدأ يلاحظ أن أهل القرية لم يعودوا يخافون منه وحده، بل صاروا يخافون من صمت ليلث الذي كان يصرخ بصوت أعلى من كل كلماته المدونة.
في ليلة اكتمل فيها القمر، كان القاصّ يكتب قصة جديدة في دفتره الذي لا يرحم. كان يكتب، فقط يكتب، دون أن يضيف حرفًا أو يحذف آخر، لكن في تلك الدقة القاتلة كانت تكمن فظاعته.
رأى أهل القرية ليلث تطرق باب القاصّ، أغلق أهل القرية أبوابهم، وليلث واقفة في الظلام، عيناها تشعّان بالنور،
نظر القاصّ إليها ثم إلى دفتره، كانت صفحات الدفتر قد امتلأت بنظراتها، كانت عينا ليلث تتجول بين صفحات كتابه،
في الصباح، وجد أهل القرية الدفتر مفتوحًا في أحد الأزقة، وكانت الصفحات بيضاء تمامًا، اختفى القاصّ، لكن ليلث بقيت، القرية كلها بدأت تكتب قصصها الخاصة بعد اختفاء القاصّ، خائفةً من أن تكون عينا ليلث تقرأ ما بداخلهم.
أصبح الجميع قصّاصين، والكل خائف من أن يكون بطلًا في قصة أحدهم. أما القرية؟ فقد صارت مجرد دفتر كبير مفتوح على السماء، تنتظر أن يكتب أحدهم نهايتها.




أخبار متعلقة :