اليوم الجديد

حرب الحقائب الفاخرة

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
حرب الحقائب الفاخرة, اليوم الجمعة 9 مايو 2025 03:01 صباحاً

حرب الحقائب الفاخرة

نشر بوساطة عذراء الحسيني في الرياض يوم 09 - 05 - 2025


«خدعة البراندات».. حين تخيط الصين حلم أوروبا
بعيدًا عن الحرب التجارية المحتدمة بين الصين والولايات المتحدة، برز جانب آخر من مشهد العولمة الاقتصادية، يصفه كثيرون اليوم ب»خدعة البراندات». فبينما تستعر معارك الرسوم الجمركية وحصص الإنتاج، تُكشف على الجانب الآخر من العالم كواليس صناعة الرفاهية التي تملأ واجهات المتاجر الفاخرة وتُروّج لها مؤثرات التواصل الاجتماعي بوصفها قمة الذوق والترف.
في مشهد يتكرر على "إنستغرام" و"سناب شات"، تستعرض مؤثرات عالميات وعربيات حقائب فاخرة تتجاوز أسعارها عشرات الآلاف من الريالات، في صورة تعزز مكانة اجتماعية وتوحي بالفخامة المطلقة. لكن مقاطع مصورة عبر تطبيق "تيك توك" قلبت المعادلة، حين كشف عمال وموردون صينيون أن هذه الحقائب، التي يُكتب على بطاقتها "صُنع في إيطاليا" أو "فرنسا"، إنما خرجت من مصانع متخصصة في الصين، تُنتج نفس التصميمات والتفاصيل وبجودة عالية، قبل أن تُعاد تغليفها وتسويقها عبر كبريات العلامات التجارية في العالم. هذه المفارقة فجّرت نقاشًا عالميًا حول أصل المنتجات الفاخرة، وقيمة ما يدفعه المستهلك لقاء «الشعار» فقط، بعيدًا عن الجودة الحقيقية.
فمن داخل أحد المصانع الضخمة في الصين، ظهر رجل أعمال صيني في مقطع مصور يقول بثقة: «80 % من الحقائب الفاخرة التي تراها في المتاجر العالمية تُنتَج هنا في الصين. تُصنّعها بجودة عالية، ثم تُرسل إلى أوروبا لوضع الختم النهائي فقط». لكن التصريح الذي أثار موجة جدل واسع جاء من أحد المصنّعين، حين قال: «90 % من السعر الذي يدفعه الزبون هو مقابل الشعار، لا أكثر». ثم عرض مقارنة بين حقيبتين متطابقتين: واحدة أصلية من علامة فرنسية شهيرة تُباع بأكثر من 75 ألف ريال، والأخرى لا تحمل الشعار وتُنتج بنفس المواد والتفاصيل مقابل أقل من 1500 ريال.
تلك المقاطع، التي سُجلت داخل المصانع أو عبر لقاءات مباشرة مع الموردين، لم تكن تسريبات عشوائية، بل حملت لهجة تحدٍ ضمني لسوق العلامات الغربية، ورسالة واضحة مفادها: الجودة لم تعد حكرًا على أوروبا. فمن داخل مصانع في الصين، إلى مقاطع مؤثرين على "تيك توك"، إلى تحقيقات قضائية في ميلانو... يتهاوى البناء التسويقي لأشهر الماركات العالمية أمام تساؤلات جديدة يطرحها المستهلكون: من يصنع حقيبتي؟ وما الذي أدفع ثمنه فعلاً؟ في هذا التحقيق الاستقصائي، نكتشف خفايا "اللعبة النظيفة ظاهريا «، ونفتح ملف خدعة المنشأ، واستغلال العمالة، وهوس المكانة، وسط أصوات نسائية سعودية بدأت تعيد النظر في مفهوم الفخامة من الأساس.
غضب عالمي
وسائل الإعلام الغربية التقطت هذه الموجة سريعًا. في عنوان صحفي عريض كتب أحد المواقع: "تدفع 1500 دولار مقابل حقيبة صُنعت ب50؟"، وهو ما لخص موجة الغضب التي اجتاحت المستهلكين في أميركا وأوروبا وآسيا. عشرات الآلاف شاركوا تجاربهم في الشراء وعبّروا عن شعورهم بأنهم كانوا يدفعون فقط من أجل "الوهم". لكن الأمر لم يتوقف عند مواقع التواصل. تحقيقات قضائية وصحفية كشفت لاحقًا أن الممارسات نفسها تحدث داخل أوروبا، وليس فقط في الصين. في ميلانو، كشفت السلطات الإيطالية عام 2024 عن شبكة مقاولين تعمل لصالح ماركات عالمية، حيث يتم تصنيع الحقائب بأسعار متدنية، في ورش تُدار بظروف استغلالية، بعضها استخدم عمالة مهاجرة صينية بواقع 2 يورو في الساعة
«صُنع في أوروبا» خدعة أنيقة
لكن السؤال الذي بدأ يطرحه كثيرون: إذا كانت المنتجات تصنع فعليًا في الصين، فكيف يُسمح قانونيًا بوسمها ب «صُنع في إيطاليا» أو "صُنع في فرنسا"؟ الإجابة ليست في جودة المنتج، بل في خدعة قانونية أنيقة. فمعظم العمليات الأساسية -من قص الجلود، وخياطة الأقمشة، وحتى التجميع الكامل- تتم داخل مصانع صينية عملاقة. تلك المصانع تعمل لصالح عدد من البراندات العالمية في الوقت نفسه، وتلتزم باتفاقيات عدم إفصاح صارمة تحجب أسماء عملائها. بعد الانتهاء من 90 % من التصنيع، تُرسل المنتجات إلى أوروبا لوضع «اللمسة الأخيرة» : زر معدني، بطانة داخلية، أو تغليف فخم. ووفقًا لقوانين الاتحاد الأوروبي، فإن مكان «آخر تحول جوهري» في المنتج يحدد بلد المنشأ، مما يسمح قانونا بوضع عبارة "صُنع في إيطاليا" على حقيبة أمضت معظم مراحلها في قوانغتشو أو شينزن. كما يصف أحد الموظفين السابقين بدقة: "الجزء الإيطالي الوحيد هو العلبة... أو الخياطة الأخيرة". وهكذا، يتم تسويق المنتج على أنه نتاج الحرفية الأوروبية، بينما هو في حقيقته تصميم فرنسي، وتنفيذ صيني، وتشطيب إيطالي - لكن المستهلك لا يرى إلا العبارة على الملصق.
مؤثرات في مهب الصدمة
ردود الفعل الخليجية لم تتأخر. فقد ظهرت بعض المؤثرات، اللواتي لطالما تباهين بمجموعاتهن من الحقائب الفاخرة، في مقاطع جديدة وقد خيمت عليهن الدهشة. إحداهن استعرضت حقيبتين أمام جمهورها، قائلة: «واحدة أصلية من متجر عالمي، والثانية مطابقة تمامًا لكنها بلا شعار. لو ما قلت لكم الفرق، هل كنتم ستعرفون؟ عن نفسي انصدمت!» أخرى قالت: «كلنا كنا نشتري من أجل الاسم. الآن أشعر أني كنت أشتري وهمًا مغلفًا، مجرد وهم له بريق». هذه الاعترافات لم تمرّ مرور الكرام على متابعيهن، بل فتحت نقاشات حادة في التعليقات حول حقيقة «البرستيج»، وتحوّل الشعار من رمز للتميز إلى أداة تضخيم للقيمة.
حين تهتز الثقة
لم يكن الشارع السعودي بمنأى عن تداعيات "فضيحة البراندات"، بل لعل ما حدث في الأشهر الأخيرة أطلق نقاشًا واسعًا، ربما غير مسبوق، حول قيمة العلامة التجارية، وأخلاقيات الصناعة، وأولويات الشراء. ورغم تصاعد نبرة الشكوك حول مصداقية بعض البراندات العالمية، إلا أن السوق السعودي لا يزال يُصنّف من بين أكثر الأسواق استهلاكًا للمنتجات الفاخرة في المنطقة، خصوصًا في قطاع الحقائب. تشير بيانات شركة Grand View Research إلى أن حجم سوق الحقائب في السعودية بلغ نحو 337.5 مليون دولار أميركي في عام 2024، مع توقعات بوصوله إلى 409.9 ملايين دولار بحلول عام 2030، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 3.2 % بين عامي 2025 و2030. ولا يقتصر هذا التوسع على المملكة فقط، بل يمتد إلى دول الخليج، حيث يُقدّر حجم سوق السلع الفاخرة الشخصية في مجلس التعاون الخليجي بحوالي 10.3 مليارات دولار في عام 2024، ومن المتوقع أن يصل إلى 14.7 مليار دولار بحلول عام 2033، بمعدل نمو سنوي يُقدّر ب3.82 %، بحسب تقرير صادر عن مؤسسة IMARC Group.
انكسار الثقة
ففي بلد يحتل مراكز متقدمة في معدلات استهلاك السلع الفاخرة على مستوى المنطقة، وخاصة في أوساط النساء، لم تمر التقارير والمقاطع المتداولة مرور الكرام، بل أحدثت شرخا في صورة طالما كانت متماسكة ولامعة. ريم العبداللطيف، (41 عاما)، موظفة في التعليم العالي، ومهتمة منذ سنوات بالمنتجات الفاخرة، قالت: «لي سنوات أقتني حقائب من ماركة معينة. ما كنت أشتريها فقط لأنها جميلة، بل لأنها تمثل ذوق، ومستوى، وانتماء لفئة معينة من السيدات. لما بدأت أسمع إن كثير منها يُصنع في مصانع بالصين، أو في ورش استغلالية في إيطاليا، حسّيت إني كنت أشتري قصة خيالية. أنا ما كنت أشتري الجلد فقط، كنت أشتري الثقة، الإحساس بالندرة. الآن، هذه الثقة انكسرت." تضيف ريم أنها بدأت تعيد تقييم سلوكها الشرائي، مشيرة إلى أنها اشترت مؤخرًا حقيبة من تصميم سعودي محلي، مصنوع من جلد طبيعي، بتكلفة أقل بكثير، لكنها شعرت "بفخر حقيقي" وهي ترتديها .
وهم جماعي
أما سارة المالكي (29 عامًا)، موظفة في قطاع الاتصالات، فلها وجهة نظر ترتبط بجيلها، الجيل الذي نشأ مع وسائل التواصل الاجتماعي، وتَشرّب فكرة أن البراند هو لغة المكانة. كنت أتابع مشهورات السوشيال ميديا، وأقلّد ذوقهم. كل وحدة تشتري شنطة فخمة كأنها تقول: أنا وصلت. بس مؤخراً، شفت كثير منهم يطلعون يعترفون إنهم اكتشفوا أن بعض الشنط مصنوعة بنفس المصانع اللي تنتج لبراندات متوسطة. حسّيت إننا كلنا ضحايا وهم جماعي. اللي يضحك، إن كلنا كنا نعرف الأسعار مبالغ فيها، بس كنا نُقنع نفسنا إنها تستاهل!" سارة تقول إنها لم تتوقف كليًا عن شراء المنتجات الفاخرة، لكنها أصبحت "تتريّث أكثر"، وتقرأ عن العلامة والمصنع والمصدر، وتبحث عن التجارب الحقيقية من المستخدمين، وليس فقط الصور البراقة.
فخامة ولكن بشفافية
بعد سنوات من الهوس بالشعار الذهبي والأحرف الأولى المذهبة، بدأت نظرة المستهلك السعودي تتغير بهدوء. ليست صدمة تقلب الطاولة، لكنها يقظة تتسلل تدريجيًا، خصوصًا لدى فئة من النساء المثقفات، اللاتي يبحثن عن قيمة حقيقية، وقصة موثوقة، وتجربة تعكس هويتهن الفردية. مفهوم "المنتج الفاخر" بات يخضع لإعادة تعريف: هل الفخامة أن أحمل حقيبة من علامة عالمية صُنعت في مصنع خفي لا أعرف عنه شيئًا؟ أم أن الفخامة الحقيقية تكمن في الشفافية، والأصالة، والدقة المحلية؟
نورة الهذلول (32 عامًا)، مصممة سعودية أطلقت مشروعها في صناعة الحقائب الجلدية الفاخرة عام 2021، تمثل هذا التيار المتصاعد. تقول نورة: «أنا لا أُقلد، ولا أضع شعارًا يشبه، ولا أبحث عن صدى عالمي مستعار. أعمل مع حرفيين سعوديين، نختار الجلود الطبيعية من موردين محليين، نُصمم حسب هوية كل امرأة، ونروي قصة منتج بكل وضوح. بعض عميلاتي يخبرنني بأنهن يشعرن لأول مرة أنهن يملكن شيئًا 'لأجلهن'، لا لأجل نظرة الآخرين". نورة تعرض حقائبها على منصة رقمية تحمل اسم علامتها الخاصة، وتضع بجانب كل منتج تفاصيل دقيقة: مصدر الجلد، مدة التصنيع، عدد الأيدي التي أسهمت في إخراجه، وحتى فكرة التصميم. لا تخجل من أن تقول: «هذه الحقيبة صُنعت في السعودية، من يد فلانة، بخياطة يدوية بالكامل، وبجلد أنيق من مورد محلي وتضيف: الوعي الجديد لا يعني أن الناس توقفوا عن حب الجمال أو التميز، بل يعني أنهم بدأوا يسألون: من صنع هذا؟ وكيف؟ وكم أخذ؟ ولماذا هذا السعر؟... وهذه أسئلة صحية ومهمة". تجربة نورة ليست الوحيدة. بل هي جزء من تيار صاعد لمنصات محلية وخليجية باتت تُروّج لما يمكن تسميته ب «المنتج الفاخر الواعي» منتج يحمل قصة واضحة، وخط إنتاج شفاف، وهوية لا تخجل من إعلان جذورها. واحدة من هذه المنصات تتبنى شعارا يقول كل شيء في جملة واحدة: "اشتري منتجا تعرف أين صُنع... لا منتجا يخبّئ نصف قصته".
رفاهية الكريستال
في خضم هذا السيل من الوقائع والمقاطع الصادمة والتقارير القضائية، لا يتوقف السؤال عند: أين صُنعت الحقيبة؟ بل يمتد إلى أعمق من ذلك: ما الذي نشتريه فعلاً عندما ندفع آلاف الريالات مقابل اسم على قطعة جلدية؟ في هذا السياق، تقول الأكاديمية والكاتبة مريم حسين اليحيى، إن العلامات التجارية الكبرى لا تبيع منتجا ملموسا فحسب، بل تسوّق تجربة راقية متكاملة. إنها تروي قصة فخمة محبوكة بعناية، حيث تصبح الحقيبة رمزا للحصرية والهوية الأوروبية والحرفية التي يُفترض أنها لا تتكرر، "العميل لا يشتري فقط منتجا... بل ينغمس في عالم من التفرد"، تقول اليحيى. لكن هذه القصة باتت تتعرض لتصدعات عميقة، بعد أن اتضح أن بعض المنتجات التي نتصور أنها خرجت من ورشة في ميلانو، صُنعت فعليًا في مصنع خياطة في شنتشن أو قوانغتشو. تقول اليحيى: "المشكلة ليست في جودة التصنيع فقط، بل في الثقة. فما يشتريه العميل فعليًا هو القصة، والإحساس بالتميز... وهذا ما تهاوى عندما انكشف المستور. وتشير إلى أن هذه الهزّة ليست عابرة، بل تمس العقد النفسي غير المكتوب بين العلامة والمستهلك. ففقدان الشفافية لا يُعد مخالفة تجارية فقط، بل يُشكّل خيانة لتوقعات العميل، الذي بات يرى أن "صُنع في الصين" لا يتوافق مع وعد الفخامة الأوروبية الأصيلة. وترى اليحيى أن "السمعة في عالم الرفاهية أشبه بالكريستال: براق لكنه هش. يمكن أن ينكسر بتغريدة، أو بتقرير صحفي، وقد لا يُصلَح مجددًا مهما ضُخّت فيه الأموال". فالمستهلك السعودي أو الخليجي الذي يقبل بمنتج من علامة متوسطة صُنِع في آسيا، لا يتسامح بالسهولة نفسها عندما يتعلّق الأمر باسم يُفترض أنه فرنسي النكهة أو إيطالي الروح.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.




أخبار متعلقة :