نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
التيفو.. الخطاب الأدبي للمدرج, اليوم الجمعة 9 مايو 2025 02:55 صباحاً
نشر بوساطة عبد الله عوض القرني في الرياض يوم 09 - 05 - 2025
لم تعد الرياضة، في وقتنا الحاضر مجرد نشاطٍ بدني، يمارسه الإنسان في معزلٍ عن الآخرين، أو بعيداً عن التداخل مع الكثير من العوامل الأخرى التي تنامت مع الزمن حتى أصبحت ذات أبعاد عميقةٍ جداً وبالغة التأثير في الحياة بشكل مباشر، وهذه العوامل منها ما هو عاطفيٌ مشاعري يتأصل في الروح، فتنمو فيها عاطفة الانتماء، وتهبّ عاصفة الانجذاب نحو رياضة بعينها، أو فريق يمارسها، بعد أن تشكلت قوانينها الصارمة، التي تضمن عدالة المنافسة، وأحادية التتويج، ومنها عوامل تتعلق بالجانب الاقتصادي الاستثماري، الذي بات يتجاوز أرقاماً مليارية، ومنها أيضاً عوامل إعلامية، تتمثّل في مؤسساتٍ هائلة لها برامجها وأجندتها، من فرق النقل المباشر، ووسائل التوثيق، والتعليق والوصف، والتقارير الإخبارية، والبث إلى كل أرجاء الأرض، ولكن وسط هذه الرياضات والمنافسات تبقى كرة القدم، وجماهيرها علامةً فارقةً في رياضة الإنسان المعاصر، إذْ استطاع هذا الاختراع الفريد -إن صحت التسمية- أن تصبح النشاط الرياضي الأكثر وصولاً إلى أعماق حياة الأكثرية من بني الإنسان، فاختلفت الانتماءات، وتنوعّت الشعارات، وتنامى عشق الجماهير لهذه الفرق بألوانها المختلفة، وشُيَّدتْ لأجل هذه اللعبة مدناً رياضيّة، ومنشآتٍ عملاقة، تستقبل في مواعيدها آلاف البشر وتذاع أحداثها لملايين آخرين عبر الشاشات، ونُظِّمت لأجلها بطولاتٌ تاريخيّة، ومناسباتٌ عالمية، يا لها من لعبة مثيرة إلى حد الإغماء، مُفرحةٍ إلى حد الجنون، مُبكيةٍ إلى حد انفطار القلوب، لقد باتت حديثَ الشارع والمجالس، وهمّاً يجترح الصغار والكبار، تُشدُّ لها الرحال، وترخص من أجلها الأموال، وتجاوزت أحداثها ساحة العشب الأخضر، لتغدو في حالة الفوز انتصاراً إعلامياً وحضارياً للألوان والشعوب، وتجذرت روح الانتماء في نفوس العشاق فابتُكرت الأناشيد ورُدِدت الهتافات والتغاريد، إلى أن أصبح الشعار الموحد لمدرّجها الكبير، أو ما يسمّى ب(التيفو) رسالةً خطابيّة يتمثلها آلاف المشجعين في ملعب كرة القدم، من خلال صورةٍ متناسقة الرسم والألوان، فتشكل الأيادي التي ترفع تلك المربعات الصغيرة لوحةً عملاقة، كاملة المعنى، ومتكاملة المشهد، بناءً على بروفاتٍ وتجهيزات مسبقة، لها توقيت زمنيّ محدد في دقائق اللقاء، وترتيب حركيٌّ مُبَرْمَجْ، فيتم ترتيب المنظر العام للتيفو وفقاً لترقيم المقاعد، مع خلفية من زئير الجماهير الهادرة؛ ليكتمل المشهد صوتاً وصورة، لقد قدّمت جماهير هذه اللعبة نفسها على كل فريقها، لتصبح اللاعب رقم (واحد) في صراع هذه الرياضة المثيرة، فصنع جمهور هذه اللعبة بهتافهم ولوحاتهم، رسالةً أدبيةً لافتة، رسموها بطريقتهم الخاصّة، رسالة عميقة التأثير وبالغة الوصول إلى المخاطب، يمكن قراءتها (سيميائياً) من خلال الكثير من التفاصيل الكامنة في هذا المشهد، (والسيمياء) هي منهج نقدي حديث يرتكز على قراءة العلامات والرموز، وتحليل الدلالات العميقة ذات التأثير والإيحاء غير المباشر، فكل حرف له معناه، وكل لون له مقتضاه، فضلاً عن المتعة (السينمائية أيضاً) فهي مشهد مثيرٌ بامتياز صار له فنه وجمهوره (وأكشنته) ومتابعوه، متكامل مع بقية فصول هذه الحكاية المجنونة، فهذا الشعار(التيفو) قد يكون كلمةً واحدة من حروفٍ لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولكنها رمزيّةٌ تستحضر تاريخاً من الأرقام والمنجزات، وتستدعي سنيناً من الذكريات، وترمز لاعتلاء المنصات، وتشير بحروفها ورسمها إلى سطوة ذاك الفريق عن ذاك بما يفوق به غيره من المميزات، فيتباهى على منافسيه، ويضيف دعماً معنوياً ونفسياً لفرقته في ساحة التحدي، كما أنّ هذا (التيفو) قد يكون ملامحه تبدو من مسافةٍ بعيدة رمزاً لتوثيق الانتصارات، وصوتاً لعدد لا ينتهي من كلمات العشق والانتماء، تدفعه (سكيولوجيةٌ سلوكية جماعيّة) مدهشةُ التناغم والتفاعل بين اللاعب والجماهير، التيفو هو الصورة الخطابية لواقعٍ يشبه إلى حدٍ كبير (السحر المعاصر) في شكله الحديث.
إنها رياضة كرة القدم، سلْوَة الفقراء، ونشوة الأثرياء، إنها الحاضرة في ذهنية المجتمع الحديث، المُنتَظرة في بطولاتها، والمقدَّمَة بروزنامتها على كل المواعيد، غير أنها حين تكوي توغل في جرحها كثيراً، وحين تبتسم ترفع أرواح جماهيرها إلى عالم علويٍ من الفرح الصاخب، ومن الكبرياء المستديرة بحجم الكوكب، كرة القدم اليوم تشكّل مع شقيقاتها (الكرات والرياضات الأخرى) نمطاً جديداً من الحياة، وموجة ثقافيّة طاغية بحضورها في شؤون الناس، وباحتلالها لمساحاتٍ من النقاش والسجال، والمواجهة، مهما حاول غير الرياضيّين إنكار ذلك.
انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.
أخبار متعلقة :